التراجع عن الخطأ فضيلة
✍️ صالح الريمي :
ليس مطلوبًا من أحد مهما علا شأنه أن يكون متميزًا بالعصمة وعدم الوقوع في الخطأ، فهو في النهاية بشر والخطأ والنسيان من طبائع البشر، والكبار هم الذين يحملهم تواضعهم على قبول الرأي والرأي الآخر والتراجع عن الخطأ، وصغار النفوس هم الذين يتعصبون لآرائهم ولا يقبلون بغيرها حتى وإن أوقعتهم في أخطاء فادحة..
والاعتراف بالحق فضيلة ومن شيم الكبار ويدل على رجاحة العقل وصواب الرأي، ولا تجد عالِمًا عفيف اللسان، طاهر القلب، لطيف العبارة في نقده وتوجيهه وإرشاده؛ إلا وتجده يتراجع إن أخطأ في مسالة علمية أو فقية .
وتجد طلابه من بعده يحملون نفس تلك الصفات، فإذا سروْا الطلاب بين الناس سرت مفاخرُ وفضائل ذلك العالِم، لأنهم كالعصبة الواحدة، والقبيلة المترابطة التي يمضي أمر أدناهم كأعلاهم، وما حاله وحالهم إلا كقول الشاعر:
من تلقَ منهم تقُل لاقيتُ سيدَهم
مثلُ النجوم التي يسري بها الساري
والعكس فإن سفالة اللسان، وخبث الطوية، وقساوة التعامل، تظهر آثارها في الطلاب؛ فتجعلهم كالذئاب الضارية، تنهش كل شيء، ولو من بني جنسها، همها أن تجد ما تشبع به جوعتها!
كنت حاضرًا لمجلس أحد طلبة الشيخ محمد صالح ابن عثيمين رحمه الله تعالى، يقول: قبل سنوات مديدة وفي بداية درس المغرب للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، سأله أحدُ الطلبة عن محاضرات لشخصية دعوية كانت في ذلك الزمن بدايات بروزها آنذاك، ويبدو أن الشيخ كان قد بلغه عنه بعض الأخطاء في طرحه، فنقده الشيخ نقدًا شديدًا، وكان كلامه مسجلًا..
وفي مغرب اليوم الثاني، حضر الشيخ وافتتح درسه بنقده لنفسه على كلامه السابق، وطلب عدم نقل كلامه، ومسحه من أي تسجيل، لازلت أتذكر وجه الشيخ الذي بدا عاتبًا على نفسه، وعباراته التي تفيض أسفًا على كلامه الذي اعتبره تسرعًا، وأن الواجب هو الرفق واللطف والنصح بطريقة تنفع المنصوح وتحثه على قبول النصيحة.
لقد كان ذلك الموقف من الشيخ من أعظم الدروس التي تأثرت بها طويلًا ولازلت أتذكرها وأذكرها شاهدًا على العالِم الصادق في نصحه ورجوعه عما تبين له أنه خطأ، تراجع بكل سهولة ولم يمنعه من ذلك أنه بين عشرات الطلاب الذين يجلونه أيّما اجلال، بل ربما علم أن هذا درس عملي شديد التأثير..
تربية عملية لا تُنسى من شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى، فالتراجع عن الخطأ إذا تبين فهو فضيلة عظيمة تقهر غرور النفس وتشفي أمراض القلوب وترسخ الإخلاص لله، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
*ترويقة:*
تراجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسلم بحديث «الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ؛ وَإِلاَّ فَارْجِعْ»، بعدَ أنْ أنْكَرَه على أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه، فلما تثبّت عمر من الخَبر، وجاءه أبو سعيد رضي الله عنه وأخْبره بصحّة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال عمر رضي الله عنه: (ما كنْت علمت بهذا).
*ومضة:*
فما أحوجنا للعالِم الرباني الذي رحمته بالخلق تتجاوز حظوظ النفس، وشهوات العلو والتصدر والتفوق على الأقران، ويأبى التأطير الذي يقتل جمال دعوته، وروح علمه، رحم الله الشيخ ابن عثيمين.
*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*