رحل بجسده وترك لنا روحه
✍️د. هيثم محمود شاولي:
منذ أن رحل أبي ” محمود عمر شاولي ” رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .
كنت محظوظاً عن بقية أخواني بأنني عشت معظم حياتى مع والدي العزيز في منزل واحد ، إذ أمتدت هذه العلاقة أكثر من ( خمسون عاماً ) تحت مظلة وسقف واحدة ، فقد عاصرت أبي وهو الأب القوى الحنون ، وعاصرته وهو الأخ الطيب الأمين و هو الصديق الوفي ، وعاصرته أيضًا وهو الابن الحبيب المدلل ..
فكم كنت سعيداً ومستمتعاً بأنني عشت وتعلمت في كل هذه المراحل العمرية المختلفة من حياة أبي ، لقد تعلمت منه القوة و الصبر والحمد والشكر ، وحاولت جاهداً أن أكون تحت قدميه ، فى مقابل كلمة رضا ودعوة صادقة تفتح لي أبواب السماء ،
وعرفانًا منى على ما فعله معنا من حب وخير وكرم منذ بدأنا نشعر بالحياة ..
مرت أربعة أشهر على رحيل والدي الغالي ، ولكنني لم أشعر يوماً بفقدانه عكس الاخرون ، لأن روحي أحتضنت روحه التي تجعلني أشعر بعدم الوحدة أو الغربة، أشعر بوجوده معي ، وأتخيل صورته وملامحه أمامي في كل اللحظات وطيف صدى صوته يرن في مسمعي .. وحين أشتاق إليه يأتيني في منامي ويخبرني انه بخير وفي مكان جميل وبين أيدي آمنة فيطمئن قلبي ويرتاح ، فكم أنا محظوظ بوجود روحه ساكنة في روحى و قلبي ..
لم أشعر يوماً بأنه غائب عن مكتبته التي كان يقضي فيها جزءاً طويلا من وقته اليومي في كتابة المقالات أو تأليف الكتب ، فقد ترك خلفة إرثًا من الكتب والمقالات التي سطرت ذكرياته الجميلة وحياته التي قضاها في السلك الدبلوماسي والتي كنت محظوظاً ايضاً بمرافقته في كل رحلات عمله، وهذا ما جعلني أتعلم وأكتسب منه الكثير والكثير ، وكل هذه الذكريات من مرحلة الطفولة إلى الآن محفورة ومنقوشه ويحتضنها قلبي وكفيلة بأن أعيش بقية عمري على ذكراها ..
وبالرغم من الشبه الكبير فى الملامح أكتشفت بأنى أشاركه حتى الشبه في مشيته وتصرفاته وفى احساسه ومشاعره وحبه ، لدرجة بدأت أشعر بأنني صورة طبق الأصل لوالدي ، وهذا ما يجعلني أشعر بالسعادة والفخر بأننا أصبحنا روحاً وجسداً واحداً..
مهما كتبت عن والدي فسأظل مقصراً ، فمآثره كثيرة لا يمكن سردها في مقالة واحدة ، فهناك الكثير والمثير في حياة هذا الرجل العصامي الذي بدأها من عائلة فقيرة وبسيطة من مكة المكرمة وصولاً إلى أعلى المناصب في خدمة الوطن الغالي كوزير مفوض بوزارة الخارجية ، فكانت رحلة كفاح ونضال طويلة كالنحت على الصخر بدأت من الصفر من غير وجود أب الذي فقده وهو طفل لا يتعدى الخمس سنوات ..
كانت رحلة كفاح وسيرة عطرة وحياة طويلة شاقة مليئة بالأفراح والأحزان والنجاحات والفشل والدموع والمرض تاركاً خلفه أجمل الذكريات وأروع المآثر التي ستظل عالقة فى وجداننا بقية عمرنا فرحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى وجعل قبره روضة من رياض الجنة.