التمرد في روسيا ما قبل محادثات نظيرتها البيضاء

ضرغام الدباغ

 

 

كنا نراقب، نشاهد ونسمع باستغراب، تصريحات وتصرفات لقائد مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين، ولكننا كنا نتصور أن البراغماتية قد تسللت إلى العقل الروسي، يوظفون كل ما يفيد وينفع في المجهود العام أثناء الحرب، وهذه بعيدة كما نعلم عن الأنماط الذهنية والتفكير الروسي.

السيد بريغوجين، وحتى وقت قريب لم يكن شيئاً يستحق الذكر، فصفحات تاريخه يندر فيها وجود سطور مشرقة، بقدر ما هي مليئة بصفحات سوداء، بل هناك في سيرته غير المشرفة تعدد دخوله السجن أكثر من مرة بتهم جنائية (سرقة ونصب واعتداء)، وهو لم يكن أكثر من أزعر يمارس الزعرنة في مدينته الرائعة بطرسبيرغ، حتى أن تعرف على بوتين (أبن بلدته)، رغم أنهما مختلفان كليا في السيرة، إلا أن بوتين أراد ربما أن ينقذ بريغوجين من واقعه، ويحوله لشخص نافع، وكان بريغوجين قد أمتهن وربما تعلم عمل النقانق أو ما يسمى (صوصج) ومنها أنطلق بشطارة أو قل فهلوة إلى أعمال أكبر وأوسع، ويوم كان بوتين نائب محافظ المدينة، ربما قد ساعده بهذا القدر أو ذاك ليتخلص من ماضيه، وليكن شيئاً نافعاً.

ويبدو أن عالم الأعمال (المطاعم والأكشاك خاصة) لها علاقة مع أنشطة ما وراء الستار، وهو عمل يتقنه بريغوجين تماماً، فأنتهى الأمر بإقامة سلسلة من المطاعم الفاخرة، التي يرتادها كبار الشخصيات والفنانين، وما يهمهم من تاريخ صاحب المطعم …؟ يهما أن يكون المطعم والطعام ممتازاً .. ووفق هذه النظرية تقدم الرجل وتغول وصار شيئا يذكر، وفي مطعمه الفاخر كان الرئيس بوتين يدعو ضيوفه، وحين تبوء الرئيس بوتين الرئاسة، كان بريغوجين يهمه أن يضاعف خدماته للرئيس، ويظهر له أنه ما زال بخدمته، وبدأ يتقرب للرئيس وهو يبدي آيات الولاء والإخلاص …

وهنا خطرت فكرة جهنمية بذهن صاحب المطعم، وهو أن يتولى تجنيد من خارج الخدمة العامة بوصفهم أرباب سوابق في تشكيل عسكري، مستعد مقابل الحرية أن يقدم الخدمة الخالصة لروسيا، ولم لا فهذه فكرة وتجربة مطروقة منذ زمن بعيد وفي دول عديدة، فتشكيل الفرقة (Foreign Regiment) الأجنبية في الجيش الفرنسي يعتبر من قطعات النخبة، وهي فرقة تتألف من هاربين من بلدانهم وأرباب سوابق، ويتميزون بالشدة والقسوة، وهي تجربة حدثت في بلدان عديدة وتحت شروط ومسميات مختلفة. وفي جيوش دول عديدة كانوا يشكلون وحدات من الجنود المشاغبين، أو ممن ارتكبوا مخالفات وجرائم، يفسحون لهم المجال ليصححوا مسارهم في القتال وقد شاهدنا فيلماً أمريكيا شهيرا أسمه ” العشرة القذرين / The Dirty Dozen ” ويدور حول تشكيل دورية واجب / مهمة، يختارون لها من تلك الأصناف. فهناك من يبتهل هذه الفرصة ويصلح خطأه، وإذا سقط في القتال فسيكون بمكانة مرموقة بين شهداء الواجب.

الروس شعب محب لأرضه ولغته وطعامه وشرابه وثيابه، والخيانة عندهم (ربما لا يخلون منها)، عار كبير على من يرتكبها، وفي الحرب العالمية الثانية، أتحد الشعب بقوة وكان من العسير إيجاد من يتعاون مع العدو، لذلك قاد ستالين قتال روسيا وحررت أراضيها، بل ولاحقت العدو الهتلري حتى عقر داره، بوحدة شعبية وطنية، وإذا حدثت أستثناءات، فكانت هامشية (خيانة الجنرال فلاسوف) لم تكن مؤثرة وظلت بدون أصداء واسعة..

بريغوجين، شخص ذو قدرات متواضعة (ثقافية وسياسية) بل معدومة، لذلك سيكون ملقط نار بيد قوى أجنبية، ربما سيعطوه شيئا يلعب به، ولكنهم لن يمنحوه الاحترام ولا التقدير، وهذا الرجل منذ أسابيع وهو يصرح بتعابير كبيرة (أكبر منه) والإدارة الروسية تجاريه، لأن اليوم هو يوم عمل وليس يوم ألعاب واستعراضات .. …

بتقديري الشخصي، أن هذا التمرد سيتلاشى، ويختفي، بسهولة أو بغيرها، وقد أرتكب قائد التمرد خطأ من العسير إصلاحه، وقد تلوث بمجرد أنه حمل السلاح ضد الدولة أو أطلق النار … ومن يراهن على هذا الحصان الخاسر، يعلم أن رهانه لن يحقق شيئأ، ولكن إلحاق أي أذى بروسيا وبأي درجة هو عمل جيد برأيهم … الروس أذكياء يعلمون كيف يطوقون هذا الفعل ….!(*)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتب هذا المقال وأختتم في الساعة 12,00 من يوم 24 / حزيران / 2023، وقبل أن يطلب قائد التمرد العفو، ويغادر روسيا إلى جمهورية بيلاروسيا، بعد تدخل الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو.
قيل الكثير، وسيقال أكثر. وستنعرف أكثر، ومن له رؤية عميقة، يعلم أن هذه الألعاب لا تلقى رواجاً في روسيا. القائد الألماني التاريخي الحكيم اوتو فون بسمارك (1815 ــ 1898)من القيادات التي أسست الإمبراطورية اللمانيةقدم نصيحة لكافة السياسيين الألمان الآن وفي المستقبل نصيحة من ثلاثة كلمات ” لا تحاربوا روسيا “.

Related Articles

Back to top button