جابر عثرات الكرام
عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون
كان في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان رجل يقال له “خزيمة بن بشر الأسدي” وكان مقيماً بالرقة، وكانت له مروءة ظاهرة، وبر كثير بالإخوان، وكرم مشهور، فلم يزل على تلك الحالة حتى قعد به دهره، وناخ عليه بكلكله وألح عليه الفقر، فواساه إخوانه قليلاً ثم ملّوه، فلما لاح له تغيرهم اختار لزوم بيته، وأغلق بابه، فجرى ذكره يوماً بمجلس “عكرمة” فقال: أو ما كان لخزيمة من يكافئه على مروءته، ويسد خلته، فأمسك عن الحديث، فلما خلا المجلس، ومضى من الليل جانب، قام “عكرمة” إلى كيس وخرج سراً من أهله، فركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال، ثم سار حتى أتى قريباً من بيت “خزيمة” فنزل عن الدابة وأخذ الكيس، ثم بعث الغلام إلى مكان بعيد، وتقدم إلى باب “خزيمة” وقرعه فخرج خزيمة وفتح الباب، فناوله “عكرمة” الكيس، وهم بالانصراف، فمسك “خزيمة” بطوقه وقال: من أنت…؟
فقال: ما جئتك في هذا الوقت وأريد أن يعرفني أحد.
قال خزيمة: لا بد من ذلك، فعرفني بنفسك.
فقال: أنا “جابر عثرات الكرام”. ثم تركه ومضى.
وأخذ “خزيمة” الكيس، فلما رجع “عكرمة” إلى منزله، وجد زوجته في أسوأ حال عليه، لأنها ظنت أنه جرى إلى زوجة غيرها، أو إلى جارية اشتراها.
فقال لها: يا هذه؛ قري عيناً، فوالله ما خرجت إلى شيء من ذلك، وإنما أردت أن أفعل شيئاً لا يعلمه إلا الله تعالى، فلم تزل به حتى أعلمها بصورة الأمر. ثم إن “خزيمة بن بشر” أصلح شأنه، واشترى له ثياباً فاخرة، ومركوباً حسناً، وتجهز وسار إلى “سليمان بن عبد الملك” وكان يومئذ بفلسطين، وكان به عارفاً، فلما دخل عليه، قال: ما أبطأك عنا يا خزيمة…؟
قال: سوء الحال، يا أمير المؤمنين.
قال: فما منعك من النهوض إلينا…؟
قال: قلة ذات يدي.
قال: فما أراك إلا بخير، وفي أحسن حال وأجمل هيئة.
قال: إن صورة حالي عجيبة يا أمير المؤمنين.
ثم قص عليه خبره، من أوله إلى آخره.
فاهتز سليمان لذلك وقال: من هو”جابر عثرات الكرام”…؟!
وجعل يكررها.
ثم قال: والله اشتقت إلى صاحب هذا الاسم، ولو عرفته لكافأته على مروءته وفعله هذا الجميل معك، فلله دره، ما أحسن فعله، وما أوفر عقله.
ثم دعا “سليمان” بقناة وعقد لخزيمة الولاية على مدينة “الرقة” و “الحيرة” وهو العمل الذي كان بيد عكرمة، وأمره أن يقبض على ماله ويحتاط عليه ويحاسبه.
فخرج خزيمة يريد الرقة، فلما قرب إليها خرج إليه عكرمة يتلقاه، ومعه وجوه الناس فتلقاه، ودخل “خزيمة” الرقة، وأتى إلى دار الإمارة، فلما أراد عكرمة الانصراف منعة “خزيمة” ووكل به من يحتفظ به، وأمره بإحضار المال الذي تحت يده بكامله، وعمل الحساب.
فلما حوسب فضل عليه شيء كثير، فبعث به إلى السجن، وثقله بالحديد، فأقام ثلاثة أيام في أسوأ حال، فلما مضّه ذلك أرسل إلى زوجته وهي ابنة عمه، وقال لها: امض إلى “خزيمة” وعرفيه بأمري.
فتوجهت إليه وقالت له: بئس ما جازيت به “جابر عثرات الكرام” يا خزيمة…!
فلما سمع هذا الكلام منها دهش عقله، وطار لبه، وصاح، وجعل يقول: واسوأتاه…!! واخجلتاه…!! وافضيحتاه من الله تعالى ثم من “جابر عثرات الكرام” ومن أمير المؤمنين.
ثم قام من وقته ماشياً ودخل إليه، ورمى بنفسه عليه، وجعل يقبل يديه، ويعتذر له، وأقسم بالله أنه ما عرفه، ثم أخرجه، ودخل به الحمام، وأمر بإحضار جميع ما يحتاج إليه من ثياب وطيب ودواب، فألبسه، وأركبه، واستبشر أهل المدينة بذلك، وخرج به من يومه متوجها إلى “سليمان بن عبد الملك” فوصل إليه، فلما استأذن عليه الحجاب، خرج سليمان وقال: من هذا…؟ قال: عاملك الثاني الذي وليته الرقة والحيرة.
فقال: يقدم علينا بغير إذننا.
ثم أمر بدخوله عليه، فلما رآه. قال: ما أقدمك إلينا سريعاً من غير إذن…؟
قال: يا أمير المؤمنين، ظفرت: “بجابر عثرات الكرام”.
قال: أو عرفته…؟ قال: نعم…!
قال: من هو…؟ قال: إنه “عكرمة الفياض” الذي وليتني عليه.
فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، بئس ما جازيناه عن فعلته ومروءته، ثم أُذن له فدخل.
فقال: بئس ما جازيناك به عن كرمك وجودك يا عكرمة، وبئس ما فعل خزيمة.
فقال عكرمة: يا أمير المؤمنين؛ معذور ونصيحة أمير المؤمنين أحب إليه.
فقال له سليمان: إن اصطناع المعروف يخفى ولا يضيع.
ثم أمر لعكرمة بمال جزيل وسامحه مما كان وجب عليه، وعقد لهما الولاية على الرقة والحيرة، وأضاف إليهما من الأعمال إقليماً كثيراً.