ولا تجسسوا
بقلم /د. عبد الولي الشميري
عجبت من حكمة الله تعالى فى خلقه حيث رأيت الناس – بعد تأمل – ما إلا ويرى فى نفسه أكثر قدرة من غيره على عمل كل شيء بریده، ولا يرى غيره من بنى البشر مالكا من المواهب ما يملكه، وإذا رأى من واحد منهم فاضلاً : بينه وبين غيره من الناس وقد سبقه إلى المجد والعلم والمال والفضل، والحنكة والدهاء فإنه لا يعزو شيئاً من ذلك إلى ما يتفوق به الآخر عليه وإنما إلى الحظ والنصيب والصدفة والحيلة والقدر، لولا ذلك الشعور المتأصل في الإنسان لمات غما وحقدًا على أخيه الإنسان.
فمن يعمل خيرًا وبرا وعدلاً معجب بعمله وفخور به، ومَنْ يعمل شرا وبعضا ويهدم ويجرح ويفسد هو أيضًا معجب بعمله وفخور به ويرى أنه دائما على صواب، ولذلك يقول الله تعالى
(قل هل ننبئكم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَلَا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ منا) [الكهف : 103-104] ولكن الله سبحانه قد أنعم على هذا الإنسان بأن جعل مدى سمعه محدودًا، ومدى بصره محدودا فهو لا يسمع من يتكلم من وراء حجاب، ولا من كان بعيدا ولو سمع كل ما يقال فيه لما سمع من ذكره بالجميل إلا يسيرا ولسمع من ذكره بما يكره الشيء الكثير حتى من زوجته وأولاده، ولهدمت العلاقات البشرية بين الناس وقطعَتْ الأرحام.
وكذلك البصر فلو رأى الإنسان بعينه كل ما يجرى من وراء الحجب والأستار وعلى مسافات بعيدة لكره الناس والحياة والزوجة والولد، فما يخفيه
الناس من أعمالهم ومن أقوالهم وفى صدروهم هو الشر الأكبر، وأكثره يهدم
ولا يبنى، يفرق ولا يجمع ، ولو رأى الرجل أو المرأة بـ ببصره كل يوم وليلة ما ، يصنع زوجه، وأين يذهب ومن يجالس وماذا يقول وإلى من ينظر لما بقى بين الناس بيت قائم على الحياة الزوجية والمودة والرحمة إلا من رحم الله .
ومن أجل ذلك نهى رب العباد خلقه عن التجسس والانصات لما يقوله الآخرون فى السر، والحكمة من ذلك واضحة هي مصلحة الإنسان. والتحسس والإنصات لما الذي يتجسس حتى لا يمرض قلبه ولا تتقطع علاقاته بالآخرين.
حدثني وهو حزين لما جرى له من أزمات عائلية وطلاق وخراب لبيته ع بأذنه كل ما وشتات لأسرته وتناحر بين أقاربه والأهم من ذلك أنه أصبح يحمل صدرا مليئا بالكراهية وقلبًا مشحونا بالحقد ولسانًا لا يتحدث بغير اللعنات كل ذلك لماذا؟ لأنه ولأنها كانا يتجسسان على كل مكالمات الهاتف ويتداخلان في الخطوط الهاتفية، وكل واحدٍ لا يعلم شيئًا عن الآخر حتى سمع . يقال عنه وسمعت كل ما تكره وماذا يقول عنها مع الناس، وحتى الأرحام والأهل طالتهم نار التجسس وهدمت كل شيء بنته سنوات الحب والمودة، وتشتت الأبناء والبنات أغلقت الدار التي لطخت جدرانها بالدماء وبدأت رحلة المعاناة الحقدية؛ ومن هنا أدعو كل الغيورين كما أدعو أهل الفضول وعشاق التجسس على الهاتف إلى تجنب هذا الخطر، والقبول والرضا بالستر الذى منحنا الله إياه بأن جعل السمع والبصر في الدنيا في حدود ما يحتاج الإنسان ،لمصالحه وتجريده من كل ما يعود عليه بالضرر وترك ذلك ليوم القيامة والدار الآخرة، إذ يقول الله تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فصرُكَ اليومَ حَدِيدٌ [ ق : 22] .
وأدعو أيضًا الأنظمة العربية وأجهزتها الأمنية أن تتأمل جيدا في أسباب خصومتها الدائمة وأزماتها المتفاقمة مع السواد الأعظم من أبناء شعوبها، وأن تدرس بتان مبررات العدواة والبغضاء مع الأفراد مع الأسر، مع العشائر، مع
ولا نجوا الأحزاب، مع الشخصيات البارزة لماذا؟ هل كل تلك الخصومات والعداوات لصالح البلد والنظام أم معظمها غير صائب ودافعه وأسبابه تحمل هموم الوشايات والاستماع لألسنة المتجسين غير الأمناء أو حتى ولو كان الجاسوس أمينا لمهنته، لكن هل كل من قال قولا بلسانه ولم يفعل يعتبر مستحقا للعقوبة والعداوة والإجهاز عليه؟ لماذا حققت المجتمعات الغربية
مزيدا من الأمن السياسي والاستقرار؟
ولعل مشكلة أوضاعنا العربية وتناحرها الدائم فيما بينها وبين الكثير من شعوبها، سببه الآذان الخلفية والعيون السرية التي لا تُبلغ إلا كل ما يؤذى القلوب والصدور، ومن هنا لا أرى فى الشخص الحريص على التتبع والتجسس سواء كان فردا مسئولاً، أو حاكما أو رجلاً أو امرأة إلا ضعفاً وتخوفا وحبا لإضافة قلق وهم إلى صدره.