من هو المثقف
بقلم/د. عبد الولي الشميري
“ليست العبرة بفصاحة اللسان أو كثرة الكتابة أو النياشين أو الشهادات أو الأنواط ولا بما يدخر من قدرة على اختزان الكتب والصحف والمجلات أو ما يسطر من كلمات”.
من هو المثقف العربي في نظرك؟ سؤال تلقيته على الهواء فما فتئ لساني بالرد بما يعرفه قلبي من تعريف للمثقف الحقيقى والمفاهيم – طبعا – كثيرة ومختلفة كاختلاف وجوه الناس وثقافتهم وطباعهم وأهوائهم، ولكنى أعتقد أن المثقف الحقيقى هو الذى ينعكس علمه وثقافته على سلوكه وتصرفاته وكلامه بحيث نرى المثقف عند ما نراه أو نسمع عند ما نسمعه – ثقافة ووعيا وسلوكا رفيعا يمشى على الأرض فى هيئة إنسان سواء أكان ذكراً أم أنثى، وليست العبرة بفصاحة اللسان أو كثرة الكتابة أو النياشين أو الشهادات أو الأنواط ، ولا بما يدخر من قدرة على اختزان الكتب والصحف والمجلات أو يسطر من كلمات، ولو كان الأمر كذلك لذهب الرعاع بلقب المثقفين ولنافسهم جهاز الكمبيوتر وخزائن الكتب وأشرطة الكاسيت ؛ فكلها مخازن بيانات ومراكز معلومات ليس كمثلها بشر ولكن لا يطلق عليها لقب المثقف .
كان العرب الذين ولدت اللغة الفصحى فى ألسنتهم يطلقون على المعوج غير القويم سواء أكان من الإنسان أم من الأشياء المحدودب والمعوج ومن ذلك وسائل الحرب كالرماح التى يطعنون بها والسهام التي يرمون بها، وكانوا يثقفون الرمح بتقويمه وجعله مستقيما؛ ولذلك نجد أن معنى كلمة ثقافة في معاجم اللغة العربية تعنى تقويم الاعوجاج وأنها مأخوذة من قولهم : ثَقَّف الرمح ، إذا قومه وجعله مستقيما بعد أن كان أعوج ومن أجل هذا اطلق الناس في العصور السابقة كلمة مثقف على كل لسان لم يروا في سلوكه اعوجاجا وانحرافا، ورأوا فيه استقامة ولطفا وصدقا وتواضعا وسلامة قلب وجميل طبع، ومنذ عهد أولئك الناس وحتى اليوم ظلت كلمة ثقافة تحمل كل المعاني الجميلة والصفات النبيلة التي يعبر الناس بها عن أى شخص رأوا فيه سلوكا راقيا أو أخلاقاً قويمة .
وجاء على الناس بعد ذلك عصر أطلقوا فيه ألفاظ التفاؤل على كثير من الأشياء وسموها بما يعنى الضد تماما، فاستخدموا كلمات رائعات في معانيها لغير ما سميت به وتعارف الناس على فهمها تلقائيا، ومن أمثلة ذلك في الجزيرة العربية وليبيا يطلقون على الكفيف الذى هو أعمى البصر كلمة بصير»، بل وينادونه دائما بها من باب التفاؤل وقد لا يكون هذا معروفا كذلك في مصر ولكن هناك ما يشابه ويماثل هذا فكثيراً ما سألت أحد أصدقائى من الناس وأسباب تغيبه واختفائه فيقولون هو في عافية ويقصدون أنه فى حالة من المرض، وبعض أهل المغرب يطلقون على الفقير اسما إضافيا إلى اسمه فيقولون له المرزوق، أما فى بلاد آسيا الإسلامية فلهم مصطلح آخر حينما يطلقون على الأبكم اسم الشيء على ضده في كثير من الأحوال والأمور، وخشيت أن يكون هذا التحريف التفاؤلى قد شمل أيضا معنى كلمة مثقف، والحمد لله الذى جعلنى لا أفرح بلقب مثقف عند ما يطلقه بعض الأصحاب على خشية أن يكون له نفس المعانى التفاؤلية فقط.
كنت وما زلت وسأظل أرى فى المثقف العربي غير المتفاءل به اصطلاحیا أمل المستقبل الواعد بالحب والوحدة الثقافية العربية التي ندعو إليها ولها نغنى رغم الاعوجاجات التي ما زال الواقع يشكوها، ورغم التنافس الممقوت، ورغم تسمية الأشياء بغير مسمياتها، ورغم الانقسامات والتراشق والتنابز بين قبائل وأحزاب المثقفين إما خوفا وإما طمعا وإما غير ذلك، وما زلت أردد لأبي القاسم الشابي :
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
ويتوهم بعض المثقفين كغيرهم من الناس أنهم غير مسئولين عن تقويم المسيرة الثقافية للأمة العربية بعد رحلة مريرة من التبعية والانحناء، بل إنهم مسئولون أيضاً عن تقويم المسيرة الفكرية والاجتماعية وربما السياسية لهذه الأمة، وعلى كاهلهم يقع الأمل الكبير ، ولو كان واقعنا الثقافي حتى الآن مخيبا للآمال، ولربما تمكن السياسيون من حل نزاعاتهم السياسية والعسكرية قبل أن يتمكن المثقفون من ترسيم الحدود الثقافية فيما بينهم، فإن كان ذلك – ولا الله – حقا فعلى الثقافة والدنيا السلام.