أتذكر إذ لحافك جلد شاة
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون
معن بن زائدة من أشهر أجواد العرب، أدرك العصرين الأموي والعباسي، ولاه المنصور إمارة سجستان، توفي سنة 158هـ ، وتذاكر جماعة فيما بينهم أيام معن, وأخبار كرمه، وما هو عليه من التؤدة ووفرة الحلم، ولين الجانب، وغالوا في ذلك كثيراً؛ فقام أعرابي وأخذ على نفسه أن يغضبه. فأنكروا عليه، ووعدوه مائة بعير، إن هو فعل ذلك.
فعمد الأعرابي إلى بعير فسلخه، وارتدى بإهابه (أي بجلده الذي لم يُدبغ)، واحتذى ببعضه جاعلاً باطنه ظاهراً، ودخل عليه بصورته تلك، وأنشأ يقول:
أتذكر إذ لحافك جدل شاة
وإذ نعلاك من جلد البعير
قال معن: أذكره ولا أنساه! فقال الإعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكا
وعلمك الجلوس على السرير
فقال معن: إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء، فقال الأعرابي:
فلست مسلماً إن عشت دهراً
على معن بتسليم الأمير
فقال معن: السلام خير، وليس في تركه ضير، فقال الأعرابي:
سأرحل عن بلاد أنت فيها
ولو جار الزمان على الفقير
قال معن: إن جاورتنا فمرحباً بالإقامة، وإن جاوزتنا فمصحوباً بالسلامة، فقال الأعرابي:
فجد لي يا ابن ناقصة بمال
فإني قد عزمت على المسير
فقال معن: أعطوه ألف دينار، تخفف عنه مشاق الأسفار، فأخذها وقال:
قليل ما أتيت به وإني
لأطمع منك في المال الكثير
فثن فقد أتاك الملك عفواً
بلا عقل ولا رأي منير
فقال معن: أعطوه ألفا ثانية، كي يكون عنا راضياً.
فتقدم الأعرابي إليه، وقبل الأرض بين يديه وقال:
سألت الله أن يبقيك دهراً
فما لك في البرية من نظير
فمنك الجود والإفضال حقاً
وفيض يميد كالبحر الغزير
فقال معن: أعطيناه على هجونا ألفين، فليعط أربعة على مدحنا.
فقال الأعرابي: بأبي أيها الأمير ونفسي! فأنت نسيج وحدك في الحلم، ونادرة دهرك في الجود {وإنك لعلى خلق عظيم}. ولقد كنت في صفاتك بين مصدق ومكذب، فلما بلوتك صغر الخبر، وأذهب ضعف الشك قوة اليقين، وما بعثني على ما فعلت إلا مائة بعير جُعلت لي على إغضابك.
فقال له: لا تثريب عليك! ووصله بمائتي بعير؛ نصفها للرهان والنصف الآخر له، فانصرف الأعرابي داعياً له، شاكراً لهباته، معجباً بأناته.