عندما كنتُ عامل نظافة
✒️ صَالِح الرِّيمِي
قد تدفع الأحوال المعيشية الصعبة لكثير من أرباب الأسر بالعمل في مهنٍ لا تليق بمستوى علمهم ووضعهم الاجتماعي، بغية تأمين حاجات عائلاتهم، كي لا تدفعهم الأحوال المادية الصعبة إلى طلب المساعدة من الآخرين، وعلى الرغم من عزة النفس التي يملكونها، إلا أنهم لا يرون بأسًا في مثل هذه الأعمال الوضيعة، طالما أن كراماتهم محفوظة..
فالعمل الشريف هو الذي يحفظ كرامة الإنسان، ويبقي رأسه مرفوعًا، ويجلب له الاحترام والتّقدير، فالشهادات العلمية ليست كل شيء في الحياة، بل الحفاظ على سبل العيش وصون عزة النّفس وكرامتها، هي من الأمور الأساسية التي يجب السعي إليها.
التقيت يومًا في اليمن شخصًا بالصدفة في مجلس خاص، حدثنا هذا الشخص عن قصته عندما كان عاملًا للنظافة، *وهكذا بدأ حديثه قائلًا:*
لقد عانيت كثيرًا في عملي ولكن كنت أشعر بالرضى وأنا أقتات الحلال، كنت فرحًا بعملي أعيش حياتي بشكلٍ طبيعي، لا أتأفّف ولا أتذمر، لأني أسعى من أجل طلب لقمة العيش الحلال حتى لا أحتاج إلى أحد، وأعيش بغنى النّفس، ولكن أحيانًا أشعر بالغصة وأنا أَجد أسر بعض من يعمل معي قد يقتلهم الجوع والفاقة، فكما يقال في المثل الشعبي: “العائلة تكسر الظهر”.
*يقول الرجل:*
كنت أستحم كل يوم في المرحاض العام قبل أن أذهب إلى بيتي، حتى لا يعرفن بناتي طبيعة عملي، وحين سألتني ابنتي الصغرى يومًا بابا ماذا تعمل؟ أخبرتها بأني عاملٌ زراعي مخافة أن تشمئز كوني عامل نظافة..
*يقول الرجل:* لقد أنفقت كل مالي في تعليم بناتي، ولم أشترِ يومًا ثيابًا جديدةً لي، بل كنت أشتري كتبًا لهنّ، كنت كل ما أريده منهنّ هو الاحترام والتقدير على ما أنفقه عليهن في حال الكبر.
*ثم أتبع حديثه قائلًا:*
عشية يوم دخول ابنتي الجامعة، لم أستطع تأمين رسوم التسجيل، شعرت بالعجز عن العمل ذلك اليوم، جلست إلى جانب أكوام النفايات محاولًا إخفاء دموعي، كان زملائي ينظرون إليّ من بعيد، لكن أحدًا منهم لم يأتِ ليكلمني..
في نهاية يوم العمل، توجه كل العمال نحوي، جلسوا بقربي. سألوني إن كنتُ أعتبرهم بمثابة إخوتي، وقبل أن أتمكن من الرد كانوا قد قدموا لي أجر يومهم هذا، وحين حاولت الاعتراض قالوا: يمكن لنا أن نجوع يومنا إذا اقتضى الأمر، لكن ابنتك يجب أن تذهب إلى الجامعة.
لم أستحم ذلك اليوم من الفرحة قبل ذهابي إلى المنزل كالعادة، لقد ذهبت بصفتي عامل نظافة، لكي يعرفن بناتي ماهو طبيعة عملي؟ ولله الحمد رحبن بي وبكينا من شدة اللألم، والآن بعد سنوات تنهي ابنتي دراستها الجامعية، وأصبحت تعمل بدوام جزئي، وأخواتها الثلاث يقمن بإعطاء الدروس المنزلية..
من بعد ذلك اليوم أصبحن بناتي هن من يصرفن على البيت الآن، ولم يعدن يسمحن لي بالذهاب إلى العمل، قائلات لي: بابا يكفيك طول عمرك تتعب لكي تلبي احتياجاتتا، واليوم جاء دورنا لكي نجعلك ترتاح بقية عمرك.
*ثم قال الرجل:*
يومًا اصطحبتني ابنتي الكبرى إلى حيث كنت أعمل لأتناول الطعام مع زملائي القدامى الذين كانوا يضحكون ويسألون عن سبب تقديم الطعام لهم. كانت ابنتي تجيبهم: لقد جُعتم في ذلك اليوم من أجلي، وإن شاء الله سيأتي اليوم الذي أستطيع مساعدتكم فيه..
*وختم كلامه قائلًا:*
كيف لمن عنده هؤلاء البنات أن يشعر بالفقر؟!
إن الفقر ليس عيبًا، ولكنه قدر، فربما يصنع الفقر المعجزات، ويفجر الطاقات، ويبعد عن الملذات، ويقرب إلى الطاعات، فهناك من هو سعيد بفقره، وهناك من هو شقي بغناه، إن حلاوة العسل بتذوقه، وكذا حلاوة الفقر بمكابدته.
*ترويقة:*
العمل ليس عيبًا ما دام الإنسان يحصِّل رزقه من عرق جبينه، مهما كانت طبيعة هذا العمل متواضعة، هؤلاء العاملون البسطاء، يستحقون التقدير والاحترام والمواساة منّا، ويحتاجون كل أنواع الدعم المعنوي والإنساني، وأن نقف إلى جانبهم، وألا نشعرهم بالدونية والانتقاص من كرامتهم، بل على العكس، إن لهم فضلًا كبيرًا على عائلاتهم ومجتمعهم، فمتطلبات الحياة تستوجب العمل لتأمين مصدر دخل، للحفاظ على عيش الإنسان وكرامته وأمنه الاجتماعي.
*ومضة:*
قال عمر بن الخطاب: ” إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا لا، سقط من عيني”..
وقال ابن خلدون: “لابد في الرزق من سعي وعمل”..
وهناك من قال: “العمل يبعد الإنسان عن ثلاثة أعداء: الملل، والرذيلة، والفاقة”
*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*