الوعي والحرية
بقلم : عثمان الأهدل
يتحدث الكثير عن الوعي والحرية من منطلق تعريفي، ولم يتطرق أحدٌ على حد علمي عن العلاقة التي تربطهما ارتباطا وثيقا إلا قلة، رغم أهمية هذا المحور في حياتنا، ومدى التصاقه بتصرفاتنا الذي يجعل منا قيمة. والخوض في هذا الموضوع ليس سهلا لتشعبه، ولكن ما ندركه على مر الزمان أن فقدان الوعي بين الشعوب قرة عين الطغاة والمستبدين، بعكس ما دأب به سيد الانام صلوات الله عليه في فتوحاته التي لم تقتصر على نشر الدين وارغام الناس على اعتناقه، بقدر ما كانت لتحريرهم ورفع الظلم عن كاهلهم، وبناء أرضية أكثر خصوبة تسودها الحرية، لتعطيهم مساحة للتفكير والاختيار بقناعة، تماهياً مع قول المولى عزوجل:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون 6].
ويعتقد الكثير من الناس أن التحرر من العبودية هو التحرر من سيطرة الآخرين أو حصولهم على صك من المحكمة بحريتهم. نعم قد يكون كذلك، ولكن التحرر الحقيقي يكمن في تحرير عقولنا من شوائب التفكير الذي يكبل طاقاتنا ويجعلنا حبيسي التوجس. ومن المؤسف أن الإنسان هو من يرمي بنفسه في أحضان من يستغلوه كيفما يشاؤون، ولا سيما عندما يقيد حريته بأغلال المغريات التي تجعله عبداً يخدم غاياتهم بغض النظر عن حرمتها أو حلالها. ولا شك أن الانقياد وراء تلك المغريات قد يفضي به إلى مأساة واستغلالاً لذاته، قد يصل إلى حد الغاء شخصيته.
وانتشار الوعي بين الشعوب يجعلها أكثر استعداد ضد التحديات التي تقيد حريتها وتجعلها فاقدة لهويتها، ولا سيما عندما يكون ذلك التحدي ناجم عن تسلطٍ استعمارٍ بغيض، الذي لطالما عمد إلى طمس هوية المهزوم بنشر الفساد والانحلال. فقد قام الاحتلال في أوطاننا بنشر الأفكار المضللة بين الناس بعد أن فقد الأمل في تثبيت أقدامه، وأدرك أن احتلاله لن يصمد طويلا في ظل انتشر الوعي.
والعلاقة بين الحرية والوعي هي علاقة مطردة ومتوازية لا يمكن فصلها. ويربط البعض الوعي بكثرة الشهادات العلمية، وهذه حقيقة قد تكون صحيحةً إلى حدٍ ما، رغم أننا نشاهد الكثير من حملة الدكتوراه تصرفاتهم مخجلة تحط من قدرهم وتتنافى مع ما يحملون من إرثٍ حضاري اكتسبوه عن الآباء والأجداد.
فالتفكير والتحضر فيه، لا يتأتى بحصد الشهادات، بل يأتي بالتبصر وهذا قلة من يتصفون به للأسف، وإلا لما آل حالنا وحال الأمة إلى ما نحن عليه، ونجد ذلك في دعاء فئة من الصبية أمنت بالله :{رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}.[الكهف 10].
والبصيرة هو ما يدركه الإنسان من خفايا خلف جدران الكلمات ومآلات مقاصدها، التي لا تظهر إلا لأصحاب الإدراك الواعي والمتخطي لحدود تفكير العوام. ولن يتأتى ذلك إلاّ بالقراءة المستمرة في شتى مجالات الحياة، وبالأخص المداومة على قراءة كتاب الله وتدبر معانيه بتمعنٍ تامٍ، وفهم أحاديث سيد الانام الصحيحة، فهماً حقيقياً لما تحمله من حكم، لا أن نسردها كالببغاوات، أو كما يقول الله في محكم آياته :{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.[الجمعة 5]. ومن المقولات التي شدتني حديث إمرأة أتت إلى الحجاج طالبة منه المؤنة بقولها الباتع: “أشكو قلة الفئران في بيتي”، فقال الحجاج لحاشيته :”اقطعوا لسانها”، وطبعا من لا يدرك التورية في اللغة لتاه بين سطور تلك الكلمات، ولقطع لسانها.
وما أود اضافته لما سبق هو أن الوعي مفتاح الأبواب المغلقة على ضياء المعرفة، فالمعرفة كلما ازدادت أبوابها انفتاحاً، كلما ازداد الانسان تحررا من أغلال العبودية الثقافية القاصرة التي تحجّره في فكر مؤطر محدود. وفي وصفنا الأكثر دقة أن الوعي هو ضياء ينفذ من خلال ثقب في نافذة يزيد انفراجه كلما زادت غزارة المعرفة والاطلاع، فتُرى الحياة ومآلاتها بنظرة شاملة. ولهذا أرى أن الوعي درجات لا ينتهي إلاّ بانتهاء العمر، ومع كل درجة نعلوا بها إلى قمة الحياة ندرك عبر نافذته الحقائق بنظرة شاملة ترينا ما يوارى خلف تلك القمة من مآلات لا يدركها إلاّ من حرر عقله من تأطير الفكر القاصر. والله غلبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.