الفقر.. وحش يفترس اليمن
🖋د. عبد الولي الشميري
اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع (1) أموال كثيرة تتدفق وتخرج من المخابئ لكن ليست للقمح، ولا للطعام، ولا لكسوة العراة، ولا لعلاج المرضى، ولا لتعليم أولاد المعدمين، بل نراها ونحس بها في شراء الذمم، وفي استمالة قلوب المأزومين، ولشراء أقلام المعدمين، ولاستئجار ألسنة المحتاجين، ولتجنيد فرق الاغتيالات، واستقدام وسائل الفناء لإزهاق الأرواح، وشراء اصوات الناخبين، من أين قدمت تلك الأموال، وأين كانت، ومن أجل ماذا تزهق الأرواح باسم القاعدة، وحتى متى يستمر مسلسل الإغتيالات، ومتى سيظهر الجناة، ومن يقف وراء الجناه، (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين).
إنﹼ اليمنيين أدمنوا الفقر، وفقدوا الأمل في الحصول على مصدر عيش كريم، وشحنت صدورهم بالغضب والحقد بعضهم على بعض، يتراشقون بالعداوات المناطقية والفئوية والمذهبية والحزبية، وكلهم يؤمنون بأنهم ليسوا على حق ولكنها نزعة الكرب من الشعور بالدونية، والشعور بالفوارق المعيشية، والتبعية المصلحية، والتشرذم المصلحي، وحظ الانتماءات محدود لكن الدخول في جدلية هذه التفاصيل يكتنفه الخلاف ولكن السبب الرئيس هو الحاجة والإفلاس والشعور بالتمايز المادي فيمن يخدمهم الحظ وفي من لا حظ لهم، واللافت للنظر أن اليسر المادي ليس موزعا بين السكان بحسب التواجد في الموقع الإقتصادي مثل مدن المواني التجارية، والمناطق الاقتصادية، بينما في اليمن تتمركز الثروة واليسر المادي حول وزارة المالية والبنك المركزي في العاصمة، ولماذا نجد أنﹼ مدن الموانئ التجارية، عدن والحديدة والمكلا والمخا من أشد المناطق فقراً واحتياجا وانعداما لفرص العمل خلافاً لما هو معهود في بلدان العالم أن تكون فرص العمل ومقرات الشركات التجارية وحركة البضائع وكثافة المصانع في تلك المدن وعبر تلك الموانىء، لماذا هذه الظاهرة؟.
إنﹼ التفسير المنطقي لهذه الحالة يشير إلى أنﹼ المستفيدين من موازنة الدولة والموارد العامة هم الأقربون لخزائن الدولة، وأصحاب القدرة على إستخراج العقود وإرساء المناقصات، وصرف مستحقات المستخلصات، إنﹼ ذلك أحد عيوب المركزية المالية والمركزية الإدارية، ومركزية القرارات الخدمية؛ أم أنﹼ سبب حرمان سكان المناطق الإقتصادية هو بُعدهم عن خزائن النقد؟ ويصدق عليهم المثل اليمني (من غاب عن النظر غاب عن الخاطر) ومن الأكثر غرابة أنﹼ نرى اموال الأشقاء البتروليـين لا تهتدي إلى بؤر الفقر ولا إلى أكواخ الآكلين من بقايا القمامة، ولا لمقابر المدفونين جوعاً بلا أكفان، ولكن سحائب أمطارها هي الأخرى تهطل حيث القصور والدواوين الكبيرة ومخازن السلاح، وإلى حيث منصات الصواريخ، وتجار الحروب، وأباطرة التنافس على القصر، وتتحول تلك الاموال إلى شراء الذمم وليس لشراء القمح وإنما إلى من يستأجرون قطاع الطرق ويمولون المرتزقة الذين يشترون الدراجات النارية ويقفون وراء تنفيذ الإغتيالات، لست أدري هل يعرفون أن تلك الأموال ترد يوم القيامة عليهم لا لهم، وأن إنفاقها لمن تلك مهنتهم تجعلهم شركاء مباشرين فيما يقترفون بها من جرائم، ثم نرى الناس تتساقط بين ايديهم قيمهم تحت وطأة الفقر وفي ذل الحاجة، ألا يهتدي أصحاب تلك الأموال لتفريج كرب سجين في دين يسير، أم أنهم عندما يرمون بقايا موائدهم؛ أنﹼ هناك من يتتبع براميل القمامات ويقتتلون على فرصة الوصول إليها، ويسابقون القطط وسائر الحيوانات على تلك المخلفات، ونجد جنون الأسعار وثورة الغلاء وبراكين الجشع تزداد أكثر وتتصاعد بسرعة الفناء، ومن له راتب أو دخل محدود تلتهمه ثورة الغلاء كالوحش الكاسر، والجميع يرى أنه يعمل في إطار الدين الإسلامي ويحج كل عام ويعتمر كل ما جاء رمضان، ويسجد في كل صلاة، فأين ما تأمره به أخلاقيات الصلاة وقيم الحج وروحانية العمرة، ومشهد البيت العتيق .
الخلل الإقتصادي في المجتمعات الفقيرة سببه الفساد السياسي أولا ثم عدم الاكتراث بسوء أحوال الرعية من الدولة والنظام العام أدى إلى خلل معيشي وخلل ثقافي ومشاعر إحباطية مفزعة، جعلت أفراد الشعب يتراشقون بالتهم ويشيعون النعرات ويتمسحون بما اندثر من الخلافات المذهبية والجوع بئس الضجيع، إنﹼ ضمان المعيشة وفرص التجارة و تنظيم المهن من أوجب الواجبات التي يتحتم على الدولة القيام به كأولوية حتمية بمقتضى الوجوب وليس تفضلاً ولا كرماً منها، إنﹼ العالم الّذي يتميز بشحة الموارد وكثافة السكان ليس له من علاج لأوجاع الإقتصاد بشكل دائم مثل تناوب الفرص، وتوزيعها بين الناس، فالتاجر المستورد الوكيل للشركات المنتجة والمصانع يجب أن لا يتوقف عند هذه الفرصة ويقتنع بحقوقه كوكيل أو منتج، ويترك فرص التوزيع وتجارة الجملة لطائفة أخرى من الناس ليسترزقوا من فرصة العمل وليشاركوا في الحياة الاقتصادية، كما لا يجوز للتاجر الموزع وتاجر الجملة أن يستلب فرصة تاجر التجزئة وأن لا يعتدي على أرزاق أصحاب المتاجر الصغيرة محدودي القدرة والإمكانيات الماكثين في محلات بيع التجزئة الصغيرة ليعش على فرصتهم تلك عوائلهم والعاملون معهم، ثم توزيع فرص التخصص في المجالات التجارية، فلا يجوز للناجح في بيع الأقمشة مثلاً أن يستلب فرصة الجزارين وبائعي الأسماك أو تاجر الأخشاب بمنافستهم واستخدام قدراته وخبرته لاستلاب كامل الفرص .
حتى رأينا في يمننا الفقير المنتج الرئيس صاحب المصنع هو ذاته الّذي يتولى البيع لتاجر الجملة ويتولى منافسة تاجر التجزئة على مستوى القرى النائية، وغالبا ما نرى صاحب دكان صغير للتجزئة يقفل ابوابه ويتوقف ويفلس ويتحول متسولاً بسبب إستلاب مهنته وفرصة رزقه من مستورد أو تاجر جملة أو صاحب مصنع، حيث يتولى التصنيع والاستيراد وبيع الجملة وبيع التجزئة وتعجز سلطة الدولة حتى في تنظيم شركات أهلية من محدودي الدخل في شبكة خدمة التاكسي، ووسائل النقل الفردي بشكل آمن ومنظم ومريح، ولسوء أداء واجبها شجعت على إهدار هذه الفرصة المتواضعة من أيدي محدودي الدخل في اختطاف محموم لينتهب الأثرياء والمسؤلون فرصة أعمال الفقراء بحثاً عن سرعة الثراء وهوس التسابق الرأسمالي. تاركة للفقراء فرصة وحيدة وهي أسوأ ما تعرف في اليمن: جولات الشوارع الرئيسة وأبواب المساجد وأسوار المقابر للتسول .
فالغلاء والفقر والبطالة وحش جائع كاسر:
أيُّ وحـــــشٍ كاســـــــرٍ لا ينثني أيُّ أفــــــعى سُـــــــــــــــــــــــمُّه في بــــدنِ
والهُتاف المُتعــــــالي جَزعـــــــــــــا لـــــيس إلّا من حريقِ الوطــــــــــــــنِ
والبُـكـــاءُ المُــــرّ في حاراتــنــــــــا لم يكن إلّا نُـــــــــــواحُ الحَـــــــــــــــــــــزنِ
فالغلاءُ الوحــــشُ ليث جائـــعٌ ينشــــــــرُ الفقرَ بأرضِ اليـــــــــــــمـــنِ
ما على مَن مات بالجُوعِ إذا لم يجــــــد حتى رفـات الكــفـــــــــنِ؟
عاطلاً يلوي بلا شــــــــغل ولم يتمنَّ غيرَ حُـلـــــم السَــــــــــــــــــكَــــــــــــنِ
كلمـــــــــا يملكـــــــه فـي عمــــــــــــره حبَّه الأهل وبغــضَ الزمـــــــــــــــــــنِ
مات من جوعٍ ومن همٍّ ومن بــــــرد كانـــــــــون وداءٍ مُــــــزمـــــــــــــــنِ
مُثقَــــــلاً فـــــي لحـــــده ميـراثُـــــــــــه كشـــــفُ أرقــام الديــــون المُتــقـــــــنِ
وبقايـــــا مـــن دمـــــــــــــوعٍ سُكبت فـــــــــوق ثـــــــوبٍ أثــَــــــــري عَـــفـــــــــــــِنِ
وبُنَـيـتـــــــات علـى مضــــــــجعــــه قُصَّـــــــــرٍ يـرضعــــن ثدي المـحــنِ
آه من قــــــومٍ رأوا مَصرَعَــــــــــــــه ومضوا كالضـــاحِك المسـتهجـنِ
ولكم قــــــــــــــارون فـــي أمـتـــــــــــــــه مات (بليونـير) مــــوت المُدمــــنِ
إنﹼ هذه صرخة بين يدي الإنتحار، وتحذير من الإنفجار المدمر الّذي لا أرغب في شرح مضاعفاته، حتى لا يكون توجيهاً بفتنة عارمة، وأدعو مراجعة هذه الظاهرة ووضع حلول عاجلة؛ للتخفيف من حدتها حتى لا يجرف سيل الجوع مزيداً من الأمن والسكينة في المجتمع .