الخطاب الديني في العصر الرقمي

أ . د   عبد الكريم عبد الجليل الوزان /  رئيس الجامعة الآفروآسيوية المفتوحة

د. عبد الكريم الوزان
د. عبد الكريم الوزان

تتفاعل المجتمعات البشرية وتنمو باستمرار نحو ايجاد بدائل وأنماط  تتناسب مع مستوى التقدم العلمي والثقافي في العالم، من أجل  تحقيق حياة أفضل، تتماشى مع المتغيرات الكبيرة في العالم. إذ لايمكن أن تبقى الثقافة السائدة في مجالات الحياة المختلفة المتمثلة بفرص العمل، والسلوك والفهم وغيرها هي نفسها، خصوصا بعد تغير كثير من القواعد التي كانت تعتمد عليها مختلف العلوم والتطبيقات.

 

واليوم وفي ظل التكنولوجيا الحديثة والعالم الاتصالي المفتوح، تحتم تصميم خطاب رصين يحقق رسالته وأهدافه، بعد أن أتاح له التقدم أن يدخل عالم التحول الرقمي الذي يعجل في وصول الرسالة الى المتلقي بكل سرعة ودقة ، ويحصل على رجع صدى يمكنه من تعديل ما أرسل. ويمثل الخطاب الديني أهمية في العصر الرقمي نظرا للقدسية والتأثير المجتمعي الذي يمثله، بمنأى عن التعصب والكراهية، حيث يحافظ على تماسك المجتمع واعلاء قيمه وعاداته وتقاليده الحميدة، ولذلك من الضرورة الاستفادة من الرقمنة عند التعامل مع هكذا خطاب.

 

وتتمحور التساؤلات في كيفية تحقيق التفاعلية والاستفادة ما بين الخطاب الديني وعملية التحول الرقمي، وماهي العوامل التي تؤهل القائم بالاتصال لتصميم خطاب ديني عبر استغلال وسائل رقمية، وكيفية تحقيق مسار للخطاب في خضم خطابات الكراهية والتعصب السائدة. وماهي العوامل المؤثرة على القائم بالاتصال وعلى الخطاب الديني عند القيام بتنفيذ هذه المهام.

 

كما تبرز لنا الحاجة  لدراسة هذا الموضوع الحيوي لأهمية مكانة الدين ومدى تأثيره على المجتمعات، في وقت أصبحت فيه المنصات الاعلامية متاحة للجميع في عالم اتصالي مفتوح، ما يتطلب خلق حصانة فكرية وثقافة دينية  تعمل على تحقيق الاستقرار والحياة الحرة الكريمة ودحر الارهاب بمختلف أشكاله وصوره، وبيان مدى تأثير العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية في الخطاب الديني، وكل ذلك باستغلال صحيح لوسائل التحول الرقمي، ووعي ومهنية القائم بالاتصال، وقدرته على التفاعل معها. وبهذا فإننا نسعى الى التوعية بأهمية الدين من خلال زيادة المعرفة العلمية التقنية  بوسائل الاعلام الحديث أو البديل، من خلال استثمار التحول الرقمي، بغية ايصال رسائل اعلامية سريعة وفق خطاب ديني اجتماعي مدروس بعناية، لحماية المجتمع واعلاء قيم الدين، ومن ثم خلق حصانة أمنية فكرية ضد البروباغاندا المعادية للاساءة للدين وقيم المجتمع.

 

ويعد الخطاب الإعلامي نمط الحياة الطبيعي الذي يعيشه الناس ونمط ممارساتهم  اليومية التي تصدر عنها الأفكار والمعتقدات والأحداث التي يمرون بها، فهو يَنقَل كل هذا ويَبثّه عبر وسائل الإعلام المختلفة، ليصل إلى الجمهور في كل مكان، وهو  قادر على توجيه الرأي العام كما شاء، لما له من تأثير قوي على المتلقي. فهو الممارسة الاجتماعية في أي مجتمع، وهو مجمل القول والفعل، ويقوم الخطاب بنقل الممارسات الاجتماعية الى الجمهور عن طريق وسائل الاعلام.

 

وبلاشك فإن هناك عوامل كثيرة تؤثر في تحقيق المتغيرات، وتقبل ثقافات جديدة وفق خطاب اعلامي صحيح، مثل التكنولوجيا، والعوامل السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية. كما أن وجود تفاهمات دولية وحوار بين الأديان، وتقارب الحضارات، بعيدا عن التقوقع والتحيز والعنصرية والطائفية، والتيقن بأن التنوع الثقافي يُستمد من تجارب وإسهامات جميع البلدان والثقافات والشعوب، يعزز من القيم الإنسانية ويقيم أرضية مشتركة، وينعكس بدوره على التفاعل الايجابي ما بين الشعوب، ويساعد على تقبل ثقافات بديلة لاتؤثر على الأصول والثوابت والعادات والتقاليد الحميدة، وصولا لتحقيق الأهداف العليا نحو بناء مجتمع سليم قادرعلى التعايش مع نفسه ومع المجتمعات الأخرى بسلام.

 

ومعلوم أن وظيفة الخطاب الديني هي تلبيغ دعوة الله تعالى إلى الناس حتى تكون منهج حياة لهم، وحتى يؤدي هذا الخطاب وظيفته هذه فلا بد أن تتوفر فيه مجموعة من السمات التي تمكنه من ذلك، وتجعله أكثر إقناعاً وإفهاماً، وله سمات أهمها الربانية والواقعية والعقلانية والترفع عن البذاءة (1).

 

والقائم بالاتصال يتوجب عليه أن يكون ملما بإمور الدين وفقهه ، ذو مكانة اجتماعية وثقافية، محايدا مترفعا، لايجتهد في ما ليس له فيه باعتبار أن “الخطاب الدينيّ أو الإسلاميّ هو الخطاب المقترن بالحكمة ويستند إلى مصادر التشريع الإسلامي؛ وهي القرآن الكريم، والسنة النبويّة، ومصادر التشريع الإسلامية الأخرى، سواءً كان هذا الخطاب صادراً من جهة أو مؤسسة دعوية إسلامية رسمية، أو غير رسمية، أو أفراد جمعهم الاستناد إلى الدين الإسلامي وأصوله كمصدر لأطروحاتهم”(2).

 

وبلاشك فإن هذا الخطاب بحاجة لأن أن ياخذ طريقه الى المتلقي، ليس داخل مجتمع واحد، بل لكل العالم عبر استخدام وسائل الاعلام الحديثة التي شملتها الرقمنة حيث يعرف التحول الرقمي بأقصر وأوجز تعريف بأنه “التغير المرتبط بتطبيق التكنولوجيا الرقمية في جميع الجوانب الاجتماعية”(3).

 

ومن هنا نستنتج بأنه  لايمكن تحقيق الثقافة الدينية الا بوجود خطاب اعلامي واضح، ووسائل اعلام متطورة ومهنية وموضوعية قادرة على كسب ثقة المتلقي، بوجود وسائل إعلام رقمية. ولابد من وجود استقرار اقتصادي يساعد الأفراد على استخدام وسائل اعلام أكثر تطورا، ليتمكنوا من مواكبة كل ماهو جديد. أما عامل التكنولوجيا فإنه ضروري، لأنه  يؤسس لوسائل إعلام يكون بمقدورها ايصال خطاب ديني بالشكل الصحيح. كذلك فإن العامل السياسي والأمني لهما تأثير كبير على  مضمون وسير الخطاب الديني، من حيث حيادية الخطاب الديني، وانسيابية تدفقه، ومن ثم التفاعل الايجابي مع  المتلقين.  وهو على النقيض من التعصب الديني والجهل والتخلف بإعتبارها عوامل تشويش ضد الخطاب الديني وإمكانية تقبله. وأخيرا لابد من  التوصل الى تفاهمات دولية، تنعكس بدورها على علاقات الشعوب فيما بينها، وتعزز من وحدة الخطاب الديني على مستوى عالمي وضمن الاطار الايجابي، ولاتتحقق الا بوجود قائم بالاتصال مهني ووسائل إعلام رقمية متطورة .

 

بعد كل ما قدمنا له  فلابد  من توحيد الخطاب الأعلامي في كل المؤسسات الاعلامية بما يتناسب مع مصلحة الدين الوطن، وايلاء أهمية لمقومات الإعلام ومنها رأس المال، والتكنولوجيا، من أجل التأثير في المتلقي وفق خطاب إعلامي ديني ممنهج، بغية جعل الأفراد يتقبلون ثقافة الدين السمح. ومن الأهمية بمكان الاهتمام بالجوانب المعيشية والاقتصادية ليكون بمقدور الأفراد اقتناء وسائل اعلام متطورة، وليتسنى لهم تخصيص وقت كاف للتفاعل معها بشكل ايجابي، وتقبل كل ماهو جديد. كذلك يتحتم على المنظمات والهيئات والجمعيات القيام  بدورها التربوي والتوعوي الى جانب وسائل الاعلام ضمن خطاب اعلامي موحد، من أجل انسيابية وديمومة الخطاب الديني بشكل أفضل عبر إتاحة استخدام وسائل التحول الرقمي. أما        المؤسسات التعليمية فيتوجب عليها التثقيف والتوجيه  في كل مراحلها الى جانب الأسرة، من أجل تفهم واعتناق الأفكار الحية، التي تمثل الثقافة الدينية وفق خطاب رصين. ولاننسى حث دوائر الأوقاف على أهمية توحيد الخطاب والابتعاد عن التقوقع والتعصب الديني، ونبذ الطائفية والمذهبية على حساب الدين الواحد، من خلال توجيه الخطباء وأئمة الجوامع والمساجد، وتنسيق الاصدارات والندوات، واستغلال كل المناسبات الدينية، وبلا شك فان ذلك سيسهل وحدة ونجاح الخطاب الديني بخاصة اذا كان التنفيذ عبر وسائل رقمية. وفي ذات الاتجاه ايلاء الحوار بين الأديان، وتقارب الحضارات أهمية ذات بعد استراتيجي، مع الأخذ بالاعتبار الحفاظ على الأصول والثوابت، وهذا ينعكس بدوره على التفاعل الايجابي مابين الشعوب، وتقبل ثقافات بديلة لاتؤثر على العادات والتقاليد الأصيلة. وتمرير ذلك عبر الرقمنة الاعلامية، ورقمنة الوسائل. وأخيرا الأخذ بنظر الاعتبار التنوع الثقافي المستنبط  من تجارب وإسهامات جميع البلدان والثقافات والشعوب، فهو يعزز القيم الإنسانية ويقيم أرضية مشتركة، ولا يمكن لأي ثقافة أن تدعي الفضل على سائر الثقافات إلا بحدود مراعاة الاصول والثوابت، وكل هذا يتحقق ويؤثر في المتلقي ويتم الحصول على الاستجابة سريعا، اذا ما أحسن استخدام الوسائل الرقمية ، وهذا مايجب أن يتضمنه الخطاب الديني .

 

 

 

المراجع

 

1-   – ماهدر أحمد السوسي، مفهوم الخطاب الديني وسماته، http://site.iugaza.edu.ps/msousi/ ، مايو 2010

 

2-   – هايل الجازي ، مفهوم الخطاب الديني ، موضوع ، 15 نوفمبر 2022

 

3-   تحول رقمي ، https://ar.wikipedia.org/wiki/ ، 12 سبتمبر 2022

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى