قراءة في مسرحية “سوناتا الرّوح”  للمخرج أحمد مصباح

صهيل الأسئلة وصلف الجواب

قراءة في مسرحية “سوناتا الرّوح”

للمخرج أحمد مصباح

د. فتحي بن معمّر

في ستّ حركات تضاهي أيّام الخلق الستّة في الكتابات المقدّسة يعرج بنا مصباح مخرج هذه “البسيكودراما” المستفزّة من فعل يوميّ واقعيّ مفروض إلى مدارات فلسفية ووجوديّة ونفسية مترعة بالأسئلة المحرجة والمربكة حول مفاهيم جديدة كـ “الحريّة” و”الفضاء العامّ” و”الحجر” وحول مفاهيم رافقت البشرية منذ طفولتها مثل “الموت” و”الحياة” و”الرّوح” و”الجسد” و”المقدّس” و”المدنّس” من خلال سرديّة بسيطة ظاهريا تتمثّل في مخالفة امرأة “منى”(قامت بدورها الممثّلة أنديرا راضي) مصابة بفروس لأمر الحجر الصّحي المفروض عليها وخروجها إلى الشارع وتعرّضها لتحرّش من طرف ثلاثة شبّان (لا يحضرون في الرّكح إلا من خلال الحديث عنهم) جعلها تدافع عن نفسها بالبصاق في وجوههم لتنقل لهم العدوى. وبناء على ذلك يقتحم قاضي القضاة “نبراس القرندلي” (قام بالدّور الممثل نبيل ميهوب) المقعد غرفة المرأة لينتزع منها اعترافا بقتلهم ولإثبات التّهمة عليها. فيندلق الحوار وتتوالى المخاطبات وتتضارب الأنفس وتتعارج الأهواء وتتصارع الأفكار في جوّ من الشّجن والحدّة والحزن ونبرة السّخرية من الحياة والأقدار وفهم الإنسان للحقائق بشكل مقلوب أحيانا.

على عكس السوناتا القائمة في أصلها الموسيقي العميق منذ القرن السادس عشر على أربع حركات (سريع – بطئء – متوسّط السّرعة – سريع)، فقد اختار مصباح أن يقيم “سوناتا الرّوح” على ستّ حركات ذات عناوين فرعية على النّحو التّالي:

– الحركة الأولى: اشتباه

– الحركة الثّانية: حبّ البقاء

– الحركة الثّالثة: سوناتا الرّوح

– الحركة الرّبعة: سحر التّماس

– الحركة الخامسة: فوبيا الموت

– الحركة السّادسة: الاعتداء الجنسي

بين حركتيْ “الاشتباه” و”الاعتداء الجنسي” يفصح لنا الفعل الدّرامي عمّا يعتمل بدواخل الشّخصيّتين القاضي والمرأة في طيّات حوار بين صلف القانون وجموده وجرأة القضاء وسطوته وجموحه والرّغبة العمياء في انتزاع الاعتراف دون البحث في الأسباب ودون مراعاة النّوازع الإنسانيّة والأعطاب النّفسيّة التي تركّز عليها المسرحية بشكل واضح وجليّ، وبين ضعف النّفس وألم الوحدة ورقّة المشاعر والتّوق إلى التّماس والشّوق إلى الآخر يدنو فيلامس فيُحيي كما جاء على لسان الشّخصية “خلايا جسدي على وشك الانتحار، على وشك الفناء، أحتاج عناقا”. هذا العناق بمعنى الحب والحنّان والامتلاء الذي سيخرجها ويخرج الإنسانية ممّا ذكرته “عن بدايات القلق وذروة المخاطرة وعمق التّهديد النّفسي ومنتهى التمزّق العاطفي” لمّا كابدت العزلة والوحدة كما كابدتها الإنسانية جميعا أيّام الحجر الصّحي المفروض.

لقد استطاع مصباح بهذه المقاربة البسيكودرامية التي تعني في بعض أبعادها “فعل الرّوح” أن يعالج بشكل طريف مقنع مختلف الإشكاليات التي أُثيرت أيّام الحجر الصّحي، ومختلف القضايا التي تفطّن إليها النّاس حين سُجنوا وحُرموا من التّواصل التلقائي الحرّ المباشر. ولذلك فقد كانت “سوناتا الرّوح” هي الحركة الوسطى وهي الحركة التي طُرحت فيها أعنف الأسئلة حول الرّوح والجسد وأسبقيّة أحدهما عن الآخر. وليس فضل مصباح طبعا يعود إلى استعادته لهذه القضايا المعقّدة بل فضله يكمن في طريقة عرضها وتناولها وإبرازها من خلال تركيزه الواضح على انفعالات الممثّليْن وتفاعلهما ومن خلالها تماهيهما المطلق مع الشخصيّة بشكل ينبئ بقدرتهما الكبيرة على الأداء الذي لا يمنح المتفرّج إلاّ خيار التّصديق والانغماس في أجواء هذه “البسيكودراما” وآلامها وصداها يألَمُ كما تألمُ الشّخصيات بمختلف مياسمها على الرّكح ويسخر من أقدار الحياة ومن نفسه وهو يدّعي نقاء الرّوح وتدنّس الجسد كما يراهما القاضي في صلف من الحياة ونبرة من اللامبالاة لآلام الآخرين حين ترشح المخاطبات ألما بينهما:

– “القاضي: مريضة، ابتعدي، ابتعدي، أنت مريضة.

– منى: بل يائسة، أنا أتألّم من يأس وليس من مرض.

– القاضي: لا تحدّثيني عن اليأس، أيّتها اليائسة، فاليأس ليس له معنى بداخلي.

– منى: تعلّمْ إذن، عندما يأتيك يائس احتضنه. ولا تلقي عليه دروس …”

وعلى هذا فقد كان التدرّج في هذه الأسئلة المستفزّة التي تحاول أن تعيد القاضي إلى إنسانيته ليحتكم إليها مستأنسا وهو يحتكم إلى القوانين “العرجاء” كما جاء على لسان “منى” في المسرحية بلهجة ساخرة كما يحاول أن يعيد أيّ انسان ينتصب قاضيا للحكم في أيّ مسألة كما نفعل دوما حين نحاكم الآخرين دون وعي ولا مراعاة لظروفهم في أبسط الأمور. فقد بدأت في الحركة الثّانية، حركة حبّ البقاء تلامس عمق الإنسان لتلفت انتباهه إلى ما يمكن أن يصيب الإنسان من أعطاب وأعراض، أسئلة من قبيل:

– “هل ظلمتَ يوما أو ظُلمت؟

– هل تكاثفت حول روحك سحب رماديّة رطبة؟

– هل اُفتكّ منك يوما قبُك؟

– هل عانقت وحدك حزنك؟

– هل حاصرتك المنيّة يوما ولم تأخذك؟

– هل سخرت من الأقدار وعافتك؟”

لتتعمّق هذه الأسئلة وتزداد استفزازا في الحركة الثالثة بما يجعل القاضي يخاطبها “عدت إلى الزّندقة؟” حين يتعلّق الحديث بالجسد والرّوح والعلاقة بينهما فشتّان بين امرأة تشتهي ملامسة تُحيي الرّوح وتهب الحياة وقاضٍ يرى الجسد لعنة والجسد “إرهاق للرّوح” بشكل يجعلنا نعود بعد هذه الأسئلة إلى “كتاب الأرواح” ( Le livre des esprits) للفرنسي “آلان كاردك” كما يجعلنا نتساءل “هذا الجسد لي أم أنا الجسد؟” مع “جاكلين لاغري” في مقالها كما يجعلنا نقرّ مع هيجل “الجسد هو الواقع الفعلي للفرد الذي اخترقه الوجود لذاته” ونتيجة لهذا الوعي بالجسد ومتطلباته فقد كانت الحركة الرابعة منطقية في سفرها نحو سحر الملامسة التي تستحضرها “منى” وهي تضع رأسها على موضع الرِّجل بالكرسي المتحرّك الخاصّ بالقاضي المُقعد، بينما تلتبس الأمور في الحركة الخامسة فتنتشر روائح فوبيا الموت في قاعة العرض بكلّ ما يرافقها من ألم وحيرة. غير أنّ الحركة السادسة والأخيرة تنغلق بتحدّ وبصراخ امرأة يتحول صوتها إلى ثورة وهي تردّد:

“أيّها الحاكم بأمره، أيّها الظّالم، سأنهش بأسناني كلّ من يعتدي على مجالي الحيوي، ويحاول أن يلمسني، سأمزّق من يحاول سلب إرادتي وحرّيتي وخصوصيّتي، سأقتلع قلب من يحال اقتلاع ذاتي التي أريد ليفرض عليها ما يريد.”

وعلى هذا فمسرحية “سوناتا الرّوح” مجموعة موقّعة من المشاهد والحركات والأقوال والانفعالات ولغة الجسد ولعبة الأضواء تتظافر لتقدّم صورة جليّة عن تخبّط الإنسانيّة ودورانها في حلقات مُفرغة من المعنى، من الحبّ، من لمسة حنان، من إحساس الإنسان بأخيه الإنسان. بل هي أيضا حزمة متشابكة من الأسئلة يلقي بها أصحاب المسرحية على وجه الإنسان علّه يرتدّ بصيرا وقد أعماه وهج الحداثة وبريق المادّة وأقعدته روح الفردانية عن الفعل ونجدة المحتاج والمسح على رأس المكلوم.

وقد استطاعت هذه المسرحية في أمد ستين دقيقة تقريبا أن تطرح أسئلة خطيرة وأن تعالج إشكاليات عميقة كما استطاعت أن تضع الإنسان أمام مرآة ذاته يتملاّها ولا يستطيع أن يكذّبها وهو يرى القوانين عرجاء في الواقع وكما جاء في ثنايا المسرحية وينظر إلى العدالة مقعدة على كرسيّ متحرّك مستطيعة بغيرها يدفعها هنا هناك كما صوّرها مصباح وجسّدها ممثّليْه البارعيْن: أنديرا راضي في دور “منى” و نبيل ميهوب في دور “القاضي” المثقعد “نبراس البرندلي” من خلال مختلف الإحالات التي يوحي به اسم “منى” باعتباره جمعا للفظة “أمنية” بما تحمله الأمنية والتمنّي من استحالة التّحقيق وما تحيل عليه دلالة المثقعد والمريض الملحقة بالقاضي في المسرحية. كما استطاعت هذه “البسيكودراما” بهذا الازدواج بين ستّ حركات في سوناتا الرّوح التي تذكّر بأيّام الخلق الستّة أن تخرج جملة الأسئلة والآلام التي تمزّق الإنسانية لتعلن بتحدّ وقوّة عزمها على النّضال والفعل بنفس سيزيفي لا يتعب ولا يني ولا يتوقف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى