الكاتب الزغويني المتحصل على المرتبة الثالثة في مسابقة الصيف الأدبي “جائزة أم سهام الأدبية” يفتح قلبه للآن
حاوره لجريدة الان الاعلامي محمد غاني
من الشخصيات الأدبية الهامة التي حطت أقدامها بدار الثقافة محمد زدور ابراهيم قاسم لولاية وهران للمشاركة في فعاليات مسابقة الصيف الأدبي لنيل جائزة أم سهام الأدبية بتاريخ 02نوفمبر 2022 بمناسبة أيام الذاكرة التي نظمتها دار الثقافة محمد زدور ابراهيم قاسم بالتنسيق مع جمعية أثار العابرين في اطار الاحتفالات المخلدة لذكرى اندلاع الثورة التحريرية الكبرى .
هذه الشخصية الأديبة القاصة المتزنة الهادئة التي تمكنت بكل جدارة و استحقاق من نيل الجائزة الثالثة في مسابقة أم سهام بقصة شيقة موسومة بعنوان ” السراب” تقربت منها جريدة الان بعد اختتام فعاليات تسليم جائزة أم سهام الأدبية و التمست منها اجراءحوار معها فلبت دون أي تردد هي شخصية الدكتور الأديب مرابط عبد العزيز الزغويني صاحب قصة السراب الشهيرة.
الآن : ألف مبروك تسلمك جائزة الصيف الأدبي لمسابقة أم سهام الأدبية
الدكتور عبد العزيز الزغويني: الله يسلمك و مبارك لصاحبي المرتبتين الأولى و الثانية قواسم صورايا من الجزائر العاصمة و الدكتورة زاهي من ولاية سكيكدة و أنا ثالثهما.
الآن : ومبارك للشعب الجزائري الاحتفال بذكرى اندلاع الثورة التحريرية المجيدة
الدكتور عبد العزيز الزغويني: انها ذكرى غالية تستوجب الترحم على ارواح الشهداء الطاهرة الزكية
الآن : كعادتنا قبل الولوج في خضم الحوار نستعرض أولا السيرة الذاتية للكاتب فمن هو الكاتب عبد العزيز الزغويني في ورقة مختصرة
الدكتور عبد العزيز الزغويني: اسمي الكامل مرابط عبد العزيز بن البشير الزغويني من مواليد 13 مايو أيار 1980 في مدينة دلس ولاية بومرداس الجزائرية زاولت دراستي الابتدائية في قرية تيزغوين و المرحلة الاكمالية و الثانوية في مدينة دلس ولاية بومرداس و قد تحصلت على شهادة البكالوريا سنة 2002 ثم على شهادة ليسانس في العلوم الاسلامية تخصص الفقه ثم الحصول على شهادة الماجستير سنة 2011 ثم شهادة الدكتوراه سنة 2020 في نفس التخصص ما اتاح لي الولوج في عالم التوظيف كأستاذ التعليم الثانوي منذ2006 الى اليوم و كذا أستاذ بجامعة التكوين المتواصل من 2012 الى 2013 ثم تحصلت على وظيفة امام أستاذ من سنة 2008 الى سنة 2011 ثم قائم بالامامة من سنة 2011 الى سنة 2017.
الآن : انك تحوي زخما كاملا من الوظائف الاساسية على ضوء انشغالك بالتعليم الثانوي و الأمامة معا و هذا الازدواج في التوظيف لا يتاح الا للقليلين أمثالك.
الدكتور عبد العزيز الزغويني: هذا من فضل ربي
الآن : لنحول الدفة الى مسارك الأدبي ككاتب فهل صدرت لك منشورات في المجال الأدبي
الدكتور عبد العزيز الزغويني: كتبت كثيرا من المقالات و نشرتها باستمرار في عدة جرائد و مجلات و لي برامج كثيرة ايضا اذاعية و تلفزيونة خاصة في قنوات القران الكريم و الوطن و نوميديا
الآن : علمنا ان رصيدك الأدبي متوج بعدة مؤلفات لو تتفضل بتعدادها مشكورا
الأديب مرابط عبد العزيز الزغويني: وصلت مؤلفاتي الى الان 5 كتب أولها كتاب موسوم بعنوان صفحات بتراث من تاريخ تيزغوين ليليه كتاب بعنوان ” رواية سهام القدر” و ثالثا كتاب بعنوان ” همسات القصبة من الفلاقة الى الحراقة ” و رابع كتاب بعنوان ” االحرقة الى الخارج ” و هي قصة واقعية تحصلت بموجبها على جائزة أول نوفمبر 2021 كما في رصيدي حكايةمؤلف ” قطاريات ” و ” تأملات و ذكرياتي” وهو امتداد القطارات و هو من الادب الاجتماعي الاصلاحي الذي يسلط الضوء على احداث و سيرورة المجتمع
الآن : على ضوء ادبياتك و مؤلفاتك لابد ان تكون قد ولجت بقوة عالم المشاركة في الملتقيات
الدكتور عبد العزيز الزغويني: نعم منها 3 ملتقيات وطنية هامة
الآن : الى جانب الجائزة الثالثة التي تشرفت بنيلها في مسابقة أم سهام الأدبية المرتبة الثالثة فماهي مجمل الجوائز الأخرى
الدكتور عبد العزيز الزغويني: سبق ان ولا الجائزة الوطنية الثالثة في الملتقى الوطني أول نوفمبر سنة 2021 في الجزائر العاصمة و جائزة تعاونية السلطان في سطيف اختصاص القصة الفنية القصيرة أما على مستوى ولاية بومرداس فقد نلت جوائز كثيرة من الوالي يحي يحياتن
الآن : كيف شاركت في جائزة الصيف الأدبي لنيل جائزة أم سهام الأدبية
الدكتور عبد العزيز الزغويني: شاهدت الإعلان عن الجائزة في وسائل التواصل الاجتماعي فتقدمت الى المشاركة بقصتي القصيرة السراب التي هي جزء من رواية ووفقني الله سبحانه و تعالى الى تحقيق امنيتي
الآن : لنحول الدفة من وجهة اخرى الى مسارك الديني باعتبار شهادتك في الفقه الاسلامي هل تعمل كما قبل لنا في الكواليس معلما للقران الكريم ايضا
الدكتور عبد العزيز الزغويني: أنا معلم القران الكريم في مدرسة تاج الوالدين لتعليم القران الكريم
الآن : وهل تناضل في جمعية أو أي هيكل معين
الدكتور عبد العزيز الزغويني: عضو مؤسس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين شعبة دلس
الآن : استمتعنا و لابد ان يستمتع القاريء الكريم بحوارك فمااذا تقول في الختام
الكاتب عبد العزيز الزغويني: لا يسعني الا أن اشكر جريدة الان الغراء على فتح هذا الحوار الشيق معي متمنيا المزيد من الحوارات مع الادباء و الفاعلين الثقافيين كما أشكر جزيل الشكر رئيس و اعضاء جمعية أثار العابرين للثقافة و الادب لولاية وهران التي اتاحت لي سبيل المشاركة في مسابقة أم سهام و زيارة ولاية وهران الجميلة الباهيةو كل يوم و الجزائر بالف خير
الآن : سعدنا بالحوار معك و إلى فرصة اخرى أودعك لنلتقي قصة السراب للكاتب عبد العزيز الزغويني
مقتطف من القصة الحائزة على الجائزة
سألته قائلا: قل أيها الغريب، أليست البشرية جميعا سواء في المشاعر والأحاسيس؟ فما لي أراك لا تعرف الخوف كما يعرفه بنو آدم؟ أليس بين جنبيك قلب تثيره الهواجس وترعبه المحن والخطوب؟
ضحك الغريب ضحكة هستيرية ممتزجة بسعال شديد، وقد انتفخت أوداجه واحمر وجهه، فضحكت لضحكه، وقبل أن أسأله عن سبب هذا الضحك المفاجئ قال مخاطبا نفسه: الخوف، الخوف، هل هناك شيء اسمه الخوف؟ آه، بلى، ومن قال غير ذلك، ثم إنني أحفظ قول القائل : ” لي يخاف سلم” وها أنا أنعم بالسلامة، وهذا يعنني أنني أخاف ولله الحمد.
ثم التفت إلي وربت على كتفي قال: تريد الحقيقة يا صاحبي، والله الذي لا إله غيره لم يكن بقريتي ولد أشد خوفا مني، بل يمكنك القول: إنني كنت أجبن الجبناء، خاصة إذا ما تعلق الأمر بتلك المخلوقات المرعبة التي قيل لنا: إنها من العالم الآخر.
أذكر أنني كنت لا أجرأ على الخروج وقت القيلولة إلى المنطقة المتاخمة لحدود قريتنا خشية أن أقع بين يدي “سنان ڤلوبة “، فيأخذني في جرابه الجلدي إلى غير رجعة.
لقد لقّننا كبار السن عندنا أن هناك مخلوقا غريبا عجيبا مرعبا أطلق عليه أهل المنطقة اسم: ” سنان ڤلوبة “، إنه وحش يظهر وقت القيلولة ليتربص بالأطفال الذين يخالفون أوامر أولياء أمورهم ويخرجون وحدهم للعب في تلك المناطق التي بمحاذاة القرية، قيل لنا: إنه وحش مخيف عديم الرحمة، يملك ضراوة الأسد وبطش النمر وجشع الضبع ودهاء الذئب ومكر الثعلب ودقة الصقر، صوت زئيره كهزيم الرعد يأخذ بالألباب، وعيناه ثاقبتان تلمعان كوميض البرق لا تغادر شيئا، وأسنانه حادة من حديد عاص كأنها مدراة، يسري في مملكته سريان الضباب حين يغشى باطن الوادي، فلا تسمع له همسا ولا ترى له أثرا، إنه يسعى جاهدا ليقبض على أي ولد خالف عرف الناس وخرج ليلعب وقت القيلولة هناك في مملكته.
أما عرينه الذي يأوي إليه ويبرز منه فمعروف عند أهل القرية ب: “غار ڤهلوز”، وهو غار تحت جرف صخري تحيط به أشواك القندول والدماماي وأشجار الضرو والحشاد، وقد عاينته من بعيد غير مرة فرأيت على جنباته سوادا قاتما يحيط بمدخله من كل جانب، قيل لنا: إنه من آثار النيران التي كان يوقدها هناك ليولم لنفسه كلما ضفر بولد من أولئك الصبية الذين لا يتقيدون بعرف القرية ويتعدّون حرماته في الوقت المحظور.
أذكر أننا تجرأنا مرة وشجع بعضنا بعضا على التمرد على عرف القرية فاتفقنا على مخالفة المألوف وتسللنا إلى منطقة “سنان ڤلوبة ” في الوقت المحظور وفي غفلة من أهلنا فتسلقنا الأشجار الباسقة الباسطة ظلالها هناك طلبا للمتعة وبحثا عن أعشاش الطير للظفر بفراخها، وبينما نحن في غمرة فرحتنا تلك إذ بصائح يصيح فينا بأعلى صوته قائلا: إنه “سنان ڤلوبة ” إنه “سنان ڤلوبة “، فطارت الألباب، ووجلت القلوب، ولم يبق لأحدنا وقتا لتحري الخبر، وانطلق الصبية في الجري فرارا من الخطر المحدق، وطلبا للسلامة، وأملا في النجاة من قبضة هذا الوحش المرعب، وحدث أن حظي كان عاثرا ذلك اليوم؛ إذ كنت معلقا على غصن أعلى الشجرة، وما إن سمعت صرخة النذير: إنه “سنان ڤلوبة ” إنه “سنان ڤلوبة ” حتى طاش عقلي. حاولت على إثر ذلك الفرار مع الفارين فكبلني الخوف، لقد شُلّت جوارحي فلم أعد أقدر على تحريك عضو منها، تجمدت رجلاي، وكَفّت عيناي، وخرص لساني. حاولت أن أصرخ بأعلى صوتي علّ أحدا من الناس يسمع استغاثتي فيهرع لنجدتي ولكن هيهات هيهات أن أفعل، إنني لم أقدر على إخراج حرف واحد، حتى إن الطريق إلى القرية وأنا الذي كنت أعرفه غاية المعرفة لم يعد هو الطريق الذي أعرفه، والمسافة التي كانت تعد بالأمتار صارت بالأميال.
لقد فر الجميع في لمح البصر ولم يتخلف هناك في منطقة الخطر غيري، لم يبق لي والحالة ما ذكرت إلا أن أستسلم لـ “سنان ڤلوبة “، لقد اختارني القدر لأكون فريسته ذلك اليوم، ولم يبق إلا أن يضع يده المشؤومة ذات الأظفار النحاسية الطويلة والشعر الكثيف على كتفي فيحكم قبضته علي ثم يُخْفِيني في جرابه الجلدي بسرعة البرق لأكون وجبته القادمة.
فتحت عيني فرأيت حولي مجموعة من النسوة تبكي وتنوح، تأملت الأعين المحدقة فإذا أمي بينهن تلطم وجهها وتندب حظها في ولدها المسكين. أدركت أن مثل هذا المجلس الذي تجتمع فيه نسوة القرية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعقد في “غار ڤهلوز” عرين “سنان ڤلوبة “، هذا يعني أنني في بيت من بيوتات القرية، فتحركت وانتفضت، وما إن لمحت النسوة ذلك مني حتى تهللت وجوههن وعادت إليها الدماء لتسري من جديد، أخذتني أمي في حضنها وضمتني إلى صدرها ضمة كادت أن تكسر بها ضلوعي وهي تبكي من الفرح قائلة: ولدي، حبيبي، حمدا لله على سلامتك يا بني، حمدا لله على سلامتك.
لقد أدركت وقتها أن الحظ قد حالفني هذه المرة فنجوت من قبضة “سنان ڤلوبة” بقدرة قادر، ولكن صورته المخيفة التي كانت مرتسمة في مخيلتي طاردتني بعدها لأيام ذوات العدد، لقد أصابتني جراء هذه الحادثة حمى شديدة، فكنت أشعر أحيانا كأنني مرجل يغلي من شدة الحر، وأحيانا أخرى أشعر بالبرد الشديد يخترق عظامي فتصطك أسناني وترتعد فرائصي، كنت أهذي هذيانا ما عهدته قبل ولا رأيته بعد، كنت كلما أغمضت عيني أرى كأن هذا الوحش المرعب يطاردني ليفتك بي، كوابيس لا أول لها ولا آخر، كنت أصرخ بأعلى صوتي وأنا أغط في نوم عميق، ولا أفيق من غصتي تلك إلا إذا أدركتني الوالدة فأيظتني وهدأت من روعي، كانت المسكينة تعتقد أنني مشرف على الجنون، فلم تدخر جهدا لدفع هذا الأذى عني، ولكن لم تنفعها حيلة مع حالتي تلك. أذكر أنها أخذتني غير مرة لطالب بالمنطقة المجاورة، فلم تأت حروزه التي علقتها على وسادتي ولا تلك الطلاسم التي أذابتها في الماء فشربتها على فترات متقطعة، لقد استمر هذا الحال معي لأيام طوال، وشاء الله تعالى أن يرفع عني هذا الضر بعد فترة ليست بالقصيرة، ولكن الخوف الذي تملكني في تلك الصدمة لم يشأ أن يبرح فؤادي، صرت بعدها لا أقدر على وضع خطوة واحدة خارج باب الدار، كنت أرى أن “سنان ڤلوبة” يتربص بي في كل مكان، خلف الأحجار وفوق الأشجار، كنت وكأنني أستشعر تلك العيون التي تومض كالبرق تتحسس خطاي، فلا يهدأ بالي حتى تميل الشمس مؤذنة بحلول وقت العصر، حينئذ فقط يتسنى لي أن أنعم بشيء من السكينة، لأنني كنت أعلم أن الخطر قد زال؛ لأن “سنان ڤلوبة” لا يجرؤ على الخروج إلا وقت القيلولة، غير أنني لم أكن أجرؤ على الخروج من الدار أيضا إلا لوقت يسير ثم سرعان ما أفقل خائفا مرتعدا؛ ذلك أن هناك دابة ثانية تتربص بالأطفال هي الأخرى، فـ “سنان ڤلوبة” لم يكن يملك غير وقت القيلولة كما لقننا كبار السن من أفراد العائلة، أما الوقت الممتد من بعد المغرب إلى طلوع الفجر فهو ملك لمخلوق آخر لا يقل فتكا عن “سنان ڤلوبة”، إنه “مهور لڤبور”، وما أدراك ما “مهور لڤبور”، زعيم الليل ومالكه، إنه مخلوق أشبه ما يكون بالحصان أو الحمار، بل هو شيء من هذا وشيء من ذاك، عليه سلاسل حديدية ونواقيس وأجراس، إذا تحرك تحركت وأحدثت صلصة عجيبة يهتز لها كل شيء، عرينه هناك في مكان غير معلوم بين القبور في الجبانة التي تتوسط القرية.
قيل لنا: إنه ما إن تغيب الشمس وتزحف أولى جحافل الظلام على الكون حتى يبرز هذا المخلوق من محله الذي لا يعلمه إلا الله فيخرج بحثا عن ما كان يبحث عنه شبيهه وقت القيلولة، إنهم الأطفال الصغار، هم الفريسة المستهدفة دائما، فطريدته كل طفل خالف أمر أوليائه وخرج ليلا من غير مرافق، والغريب في أمر هذا المخلوق أنه لا يظهر لغير الأطفال الصغار، لذلك لا يجد الكبار حرجا في الخروج ليلا، أما الصغار فهيهات هيهات أن يخرجوا، فـ “مهور لڤبور” لهم بالمرصاد، إنه يصول ويجول الليل بما فيه، فإذا بزغ نور الفجر عاد إلى الجبانة وتوارى هناك بين القبور، فلا أحد يعلم موضعه الذي هو فيه ولا المسالك التي يسلكها طول الليل، قيل لنا: إنه إذا عثر على طفل أو مجموعة من غير مرافق في الوقت ما بعد المغرب فإنه سيتحكم بهم بقوة خفية غريبة، سيكون الجميع في طرفة عين تحت سيطرته وحده وطوعا لأمره، وسيعود إلى مستقره هناك بين القبور وهم سائرون خلفه لا يتخلف منهم متخلف، ثم يتوارى ويتوارى الجميع خلفه، هناك حيث بوابة المجهول التي لا أحد يعلم ما المصير الذي سيصير إليه أولئك الضحايا.
كان خوفي من هاذين المخلوقين المرعبين يشتد يوما بعد يوم، حتى إنني أفرطت في الخوف فصرت أخاف من كل شيء ومن لا شيء، صار الخوف يلازمني في كل حال، وباتت وضعيتي مع مرور الوقت تشتد تعقيدا يوما بعد يوم إلى أن ساق الله الفرج على يدي جدي من والدي رحمة الله عليهم جميعا.
فإنه لما سمع قصتي قرر أن يتدخل بما يملكه من تجربة وحنكة علّه يخفف عني شيئا من هذا البلاء النازل. فاصطحبني ذات صباح في خرجة إلى مشارف القرية، وبينما نحن نجول في سهولها وحقولها قال لي بنبرة جادة حازمة: اسمع يا سعيد، أريد أن أفشي لك سرا ولكن عدني أن تكتم أمره عن باقي الأطفال، فقلت على الفور: سرك في قعر بئر مردوم يا جدي، قال: أريد أن أحدثك عن “سنان ڤلوبة”، فما إن سمعت هذا الاسم حتى اصفر وجهي وتسارع خفقان قلبي، ولكن جدي هدأ من روعي وقال: لا تخف شيئا فأنا معك، واسمع مني ما أقول وافهم عني ما أريد: إن “سنان ڤلوبة” مجرد أسطورة خيالية لا وجود لها في الواقع، اخترعها أجدادنا ليدفعوا الأذى عن صبيانهم وذراريهم، فالغابة التي بمشارف القرية مكان محفوف بالمخاطر كما تعلم، فيه آبار المياه مكشوفة غير مغطاة، فنخشى أن يقصدها الصبيان فيسقط فيها أحدهم في غفلة منا، وأحراشها تسكنها العقارب والثعابين لا تؤمن لدغاتها إن عبث بها العابثون عن قصد أو عن غير قصد، فكان الحل الأنسب أن ننشر هذه الكذبة ونروجها بين الأطفال حتى لا يتجرأ أحدهم على الذهاب إلى هناك وقت القيلولة من غير مرافق.
أقسم لولا أنني كنت أعرف صدق جدي غاية المعرفة لاتهمته بالكذب، ولكنني ما عهدت عليه كذبا قط، لذلك كنت مرغما على تصديقه، ولكن قبل ذلك سألته مستفسرا:
وماذا عن “غار ڤهلوز”؟ ألم تقولوا لنا: إنه عرينه الذي يأوي إليه كل مرة أم هو أسطورة من الأساطير أيضا؟ لقد رأيته بأم عيني غير مرة، فهل أكذّب ما رأيت بعيني وأسلم لكم بأن الأمر مجرد أسطورة؟ ضحك جدي وقال: أنت مصيب ومخطئ في الوقت ذاته، أقصد عليك أن تصدق ما رأته عيناك وتصدق الأسطورة أيضا، فالغار موجود فعلا لا أنكر ذلك ولكنه مجرد تجويف صخري لا أكثر ولا أقل، قلت: وماذا عن السواد الذي في جنباته؟ أليس هو من أثر النيران التي كان يوقدها “سنان ڤلوبة “؟ فأجابني إجابة الواثق قائلا: بلى، إنه من أثر النيران، ولكنها النيران التي كان يضرمها أجدادنا هناك لتسخين آنية الفخار التي كانوا يصقلونها بأناملهم حتى تتصلب وتتقوى، هذا كل ما في الأمر، ثم دعاني لإلقاء نظرة على هذا الغار عن كثب.
ترددت في البداية ولكن فضولي غلب خوفي فأمسكت بطرف ثوبه ومشيت خلفه واقتربنا سويا من الغار، نظرت في جنباته وتأملت في أبعاده فإذا هو تجويف صخري صغير تغطيه أشجار كثيفة، قد رأيت مثله غير مرة، تركت جدي خلفي وتقدمت أكثر فأكثر فتأكد لي صدق ما قاله، إنه مجرد تجويف صخري كغيره من التجاويف التي نراها هنا وهناك، وليس ثمت ما يدل على أنه مأوى لوحش من الوحوش كما كنا نعتقد.
شعرت حينها أن شيئا ما انطفأت شعلته في قلبي، شعرت أن برودة غريبة تسري في كياني، وكأنني أفقت من سبات عميق، أو عدت من بعد سحيق، لم يكن بوسعي وقتئذ إلا أن أضحك على نفسي، أضحك وفقط، لقد ضحكت وضحكت حتى بكيت من الضحك.
التفتُّ إلى جدي وقلت: وماذا عن “مهور لقبور”؟ أكيد أنه أسطورة هو الآخر، هو كذبة اخترعتموها ونشرتموها بين الصبية حتى لا يجرأ أحدهم على الخروج بعد المغرب إلا مع مرافق، وما ذاك إلا حماية لهم من الهوام المختلفة التي تنتشر مع قدوم الليل، صح يا جدي؟
فأجابني قائلا والسرور مرتسم على تقاسيم وجهه: صح يا بني، ذلك ما حصل بالفعل؟ فليس “مهور لقبور” إلا أسطورة من الأساطير التي اخترعها أجدادنا للغاية التي ذكرت، فهل اطمأن قلبك الآن؟ هل أدركت أنك كنت تخاف من شيء لا وجود له إلا في ذهنك وفقط؟ هل اقتنعت أن ما كنت تخشاه وتخافه إنما هو وهم ليس إلا؟
أتعلم يا صديقي كانت هذه اللحظة بالذات آخر عهد لي بما يسمونه الخوف، أيقنت حينها أن الخوف مجرد وهم مرسوم في أذهاننا، فإن صدقناه صار حقيقة لا مراء فيها ولا جدال، وكلما ازداد إيماننا به كلما ازداد تغولا.
لم أعد أشعر بالخوف بعد هذه الحادثة أبدا، لقد انقلب حالي من النقيض إلى النقيض، صرت أخرج من الدار وأصول وقت القيلولة وأجول في حمى “سنان ڤلوبة” دون أن تتحرك في جسدي شعرة واحدة، صرت أتفقد الآبار وأفتش الجحور وأداعب الحياة والعقارب ولا أبالي، كنت أحاول أن أخاف فلا أعرف إليه سبيلا، حتى الليل – وهو الذي يعد المصدر الأول للخوف الذي يجده الأطفال في مثل سني – لم يعد يفرق عندي عن النهار في شيء إلا في الضياء الذي في الأول والظلمة التي في الثاني، أما غير ذلك فكله عندي سواء، صرت أخرج وقت الأصيل، أخرج بعد العشاء، أخرج منتصف الليل، بل أخرج في كل وقت وحين، أخط الخطا برفق في العتمة أو تحت ضوء القمر، كنت أجد في سكون الليل وهدوئه ووحدته لذة لا تعدلها لذة، ولم يكن يشاركني في مأدبتي الروحية تلك غير ذلك الذئب البني المعروف الذي اتخذ من الصخور المتراكمة هناك على قمة الجبل مأوى له ولجرائه، هو الوحيد الذي كان يبدد صمت الليل بعوائه الساحر الملهم بين الحين والحين، كان كأنه يعلن لأهل تلك الديار أنه وحده يملك السلطة على تلك البقعة من الكون في ذلك الزمن الذي يسمونه ليلا وما هو عنده بليل، كان يتملكني إحساس غريب وأنا أمشي في طرقات القرية كلما سمعته يعوي ذلك العواء الذي تردده الجبال والسهول والوهاد، والحق أقول: إنني لا زلت إلى اليوم أقدر نظراته الحذرة وأكبر فيه ذكاءه وفطنته.
فالخوف لم يعد يعني لي شيئا؛ لأنه مجرد سراب، ومذا هو فاعل هذا السراب، فلم أعد أشعر به كما يشعر به بنو جنسي، صار بالنسبة إلي مجرد ذكرى عابرة تضحكني كلما لاح على خاطري موقف من المواقف التي عشتها يوم كنت أخاف، ولكنني اليوم لست أخاف.