مؤشرات الإصابة بالأمراض العصبية التنكسية تظهر قبل 9 سنوات من تشخيصها
حلل الباحثون بيانات أكثر من 500 ألف شخص جمعها البنك الحيوي في المملكة المتحدة في الفترة ما بين عامي 2006 و2010
🖋 بقلم بثينة صلاح
على مدى السنوات الماضية، سعى الأطباء والعلماء حول العالم لكشف أسرار الأمراض التنكسية العصبية، مثل الخرف وألزهايمر وشلل الرعاش (باركنسون)، بوصفها “أمراضًا لا يمكن الشفاء منها؛ إذ تصيب الخلايا العصبية التي تُعد حجر الزاوية بالنسبة للجهاز العصبي الذي يتضمن المخ والحبل الشوكي، ما يسبب عجزًا ومشكلات في الحركة والوظائف الذهنية”.
بعض الأمراض العصبية التنكسية -مثل مرض باركنسون وداء هنتنجتون- تصيب العقد القاعدية، وهو ما يؤدي إلى صعوبات في الحركة، وتتسبب بعض الأمراض الأخرى مثل مرض ألزهايمر وداء جسيمات ليوي في موت الخلايا العصبية على نطاقٍ واسع الانتشار، ما يؤدي إلى فقدان الذاكرة.
أما الخرف فهو “نتاج مجموعة متنوعة من الأمراض والإصابات التي تؤثر على الدماغ، مثل ألزهايمر أو السكتة الدماغية، ويؤثر على الذاكرة وسائر الوظائف الإدراكية والقدرة على أداء المهمات اليومية”، ويصيب أكثر من 55 مليون شخص حول العالم وسط توقعات بارتفاع هذا العدد إلى 78 مليونًا بحلول عام 2030، وإلى 139 مليونًا بحلول عام 2050، في حين يعاني منه 8.1% من النساء و5.4% من الرجال فوق سن 65 عامًا، وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية لعام 2021.
العمليات الفسيولوجية
في سياق متصل، توصل فريق من الباحثين في جامعة كامبريدج البريطانية إلى إمكانية اكتشاف علامات الضعف الإدراكي والوظيفي قبل تشخيص الإصابة بالعديد من الأمراض التنكسية العصبية المتفرقة في وقتٍ مبكرٍ قد يصل إلى تسع سنوات.
ووفق دراسة نشرتها دورية “ألزهايمر آند ديمنشيا” (Alzheimer & Dementia)، فإنه “على الرغم من أن العمليات الفيسيولوجية المرضية للأمراض التنكسية العصبية تظهر قبل سنوات من تشخيص الإصابة بتلك الأمراض، إلا أن التغيرات التي تؤثر سلبًا على الإدراك والوظائف الجسدية غير مفهومة على نحوٍ جيد”.
عمل الباحثون على تحليل بيانات أكثر من 500 ألف شخص تتراوح أعمارهم بين 40 و69 عامًا، جمعها البنك الحيوي في المملكة المتحدة في الفترة ما بين عامي 2006 و2010؛ إذ يعمل البنك على جمع بيانات عن صحة المشاركين وتشخيص الأمراض، وإجراء اختبارات تتعلق بقدرة المشاركين على حل المشكلات وقوة ذاكراتهم وقبضات أيديهم وردود أفعالهم تجاه المؤثرات الخارجية، وبيانات أخرى عن فقدان الوزن واكتسابه وعدد حالات السقوط في أثناء الحركة قبل تشخيص المرض، ويقدم 18 فرصةً نادرة لتحليل التغيرات السابقة للتشخيص عبر مجموعة واسعة من الأمراض التنكسية العصبية المتفرقة.
ودوَّن الباحثون جميع التشخيصات وتواريخ التشخيص من بيانات المرضى الذين اضطرتهم حالتهم الصحية إلى دخول المستشفى، وبيانات الرعاية الأولية، والتشخيصات الذاتية المبلغ عنها، وبيانات شهادة الوفاة (بالنسبة للأشخاص الذي ماتوا قبل تاريخ تحليل بيانات الدراسة في 23 مايو 2021).
علامات مبكرة
يوضح “تيموثي ريتمان” -الأستاذ في قسم علوم الأعصاب السريرية بجامعة كامبريدج، والباحث المشارك في الدراسة- أن “الباحثين استهدفوا تحديد التغيرات المبكرة الممكنة في أنواع مختلفة من الأمراض العصبية التنكسية، بما في ذلك مرض ألزهايمر والخرف ومرض باركنسون والاضطرابات المماثلة”،
يقول “ريتمان” في تصريحات لـ”للعلم”: من خلال فحص عينة البحث التي زادت على نصف مليون شخص وتحليلها تمكنَّا من إلقاء نظرة على “الزمن الماضي” للمشاركين تعود إلى ما بين 5 إلى 9 سنوات قبل تشخيص إصابتهم بأيٍّ من الأمراض العصبية التنكسية؛ لمعرفة ما إذا كان هناك دليل على تعرُّضهم لضعف إدراكي أو تغيُّر في أدائهم للمهمات الوظيفية اليومية.
ووفق نتائج الدراسة، فإن “الأشخاص الذين أصيبوا بمرض ألزهايمر سجلوا نتائج أقل مقارنةً بالأفراد الأصحاء فيما يتعلق بمهمات حل المشكلات وسرعة رد الفعل وتذكُّر قوائم الأرقام والذاكرة المحتملة (القدرة على تذكُّر فعل شيء في وقت لاحق)، كما سجل مرضى “الخرف الجبهي الصدغي” نتائج أقل من نتائج أقرانهم الأصحاء.
والخرف الجبهي الصدغي هو مجموعة من الاضطرابات الدماغية تصيب الفصين الجبهي والصدغي من الدماغ، وتدفع الأشخاص إلى ارتكاب تصرفات اندفاعية وغير ملائمة اجتماعيًّا وتتسم باللامبالاة، وأحيانًا عدم استخدام اللغة بشكل صحيح، ويُعد سببًا لما بين 10% إلى 20% من حالات الخرف.
وأظهرت نتائج الدراسة أيضًا أن المرضى المصابين بمرض ألزهايمر كانوا أكثر من البالغين الأصحاء تعرُّضًا للسقوط في أثناء الحركة في العام السابق على التشخيص، أما المرضى المصابون بحالة عصبية نادرة تُعرف بـ”الشلل فوق النووي المترقي”، والذي يؤثر على عملية التوازن، فكانت فرصة إصابتهم بالسقوط تعادل الضِّعف مقارنةً بالأشخاص الأصحاء.
استشارة الطبيب
يتفق “ريتمان” مع تقرير منظمة الصحة العالمية الذي يؤكد ارتفاع معدلات الإصابة بالخرف بين النساء مقارنةً بالرجال، مضيفًا: نتائج الدراسة تتيح الفرصة للتدخل في المراحل الأولى من المرض التي يكون معدل تأثيرها خفيفًا، فإذا تمكنَّا من علاج الناس في هذه المرحلة، ستكون لدينا فرصة أفضل بكثير لإيقاف المرض أو إبطائه، وينبغي على الأشخاص الذين يلاحظون أن ذاكرتهم تزداد سوءًا استشارة الطبيب على الفور.
ويقول “ريتمان” في تصريحات لـ”للعلم”: قدمنا تحليلًا للبيانات المستخرَجة من البنك الحيوي في المملكة المتحدة، واختبرنا ما إذا كانت التغيرات المعرفية والوظيفية قابلةً للاكتشاف لدى الأفراد الذين يصابون لاحقًا بمرض تنكس عصبي، ومعظمها متقطع، وقدمنا لمحةً عامةً عن المظاهر المبكرة للعديد من الأمراض العصبية التنكسية النادرة والشائعة، وننصح الأشخاص فوق سن الخمسين، والأشخاص الذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم أو لا يمارسون الرياضة بقدرٍ كافٍ، بالحرص على استشارة الطبيب عند ظهور أي علامات تتعلق بقدراتهم الإدراكية والذهنية؛ إذ يتيح ذلك التدخل المبكر للحد من مخاطر التعرض للأمراض التنكسية العصبية.
عوامل متنوعة
وتأتي الدراسة الحديثة في إطار دراسات عدة أُجريت على مدى السنوات الماضية بهدف إبطاء الإصابة بالأمراض العصبية التنكسية؛ إذ توصل باحثون من جامعة “كنتاكي” الأمريكية إلى طريقة يمكنها التنبؤ بالإصابة بمرض ألزهايمر قبل التشخيص الفعلي بخمس سنوات، وتتبَّع الباحثون على مدار 10 سنوات 33 شخصًا من كبار السن الأصحاء بمتوسط أعمار بلغ 75 عامًا، ووجدوا أن هذه العينة لديها نمط معين من الموجات الدماغية في المنطقة الأمامية اليسرى من الدماغ -المرتبطة بضعف الإدراك- وبالتالي من خلال المراقبة الجيدة لمهمة التذكر اليومية يمكن التنبؤ بإصابة الشخص بمرض ألزهايمر قبل تشخيصه بالفعل بخمس سنوات تقريبًا.
كما ذكرت دراسة أجراها فريق بحثي بجامعة “تورنتو” الكندية على 41 شابًّا وفتاة تتراوح أعمارهم بين 19 و35 عامًا، أن “الأنشطة العصبية المختلفة تدعم الذاكرة العاملة السمعية لدى الموسيقيين وثنائيي اللغة، وأن تعلُّم الموسيقى وإتقان لغة أجنبية يساعدان على تنشيط المناطق الدماغية المعنية بالسيطرة الإدراكية، مثل قشرة الفص الجبهي الأوسط، ما قد يحمي هؤلاء الأشخاص من الانحدار المعرفي ويؤخر إصابتهم بالخرف”.
يعلق “ريتمان”: هناك أدلة كثيرة تفيد بأن التعليم الجيد (متضمنًا التحدث بلغة ثانية) قد يوفر بعض الاحتياطي المعرفي، مما يعني أن الأعراض ستظهر في وقت لاحق عما هو متوقع.
وعن التحديات التي واجهت الباحثين خلال الدراسة يقول ريتمان لـ”للعلم”: أحد أهم التحديات الرئيسية التي تواجهنا يتمثل في إخضاع الأشخاص للتجارب السريرية، ما يعني أنه بحلول الوقت الذي يشارك فيه المرضى في التجارب السريرية، يمكن أن يكون قد فات الأوان بالفعل في القدرة على تغيير مسار المرض، ولكن دراستنا ستساعد في مواجهة هذا التحدي من خلال فتح نافذة قبل التشخيص الفعلي لتلك الأمراض في فترة تتراوح ما بين 5 إلى 9 سنوات، وبالتالي يمكننا التدخل بالعلاجات لوقف هذه الأمراض أو إبطائها .
رفع الوعي
من جهته، أشاد جمال فرويز -استشاري الطب النفسي بالأكاديمية الطبية العسكرية- في تصريحات لـ”للعلم” بنتائج الدراسة، مؤكدًا أنها “تسهم في رفع الوعي بأهمية ملاحظة أي خلل معرفي يتمثل في عدم تذكُّر الأسماء أو التعرُّض للنسيان بشكل مؤقت”.
ومن واقع عمله، يؤكد “فرويز” أن “مريض ألزهايمر تحديدًا تظهر عليه علامات أولية قبل سنوات من إصابته الفعلية بالمرض، مثل عدم تذكُّر بعض الأسماء والأرقام والأحداث القريبة، وقد يصل به الأمر إلى ادعاء أحداث وأشياء لا تحدث وهي المرحلة الثانية بعد النسيان، لتأتي بعدها المرحلة الأخيرة وهي الإصابة الفعلية وعدم التحكم في النفس”.
ويرى حسام الوسيمي -أستاذ علم النفس المساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية- في تصريحات لـ”للعلم” أن “التعلم المستمر وتدريب العقل المستمر على الأنشطة المختلفة يضمن عدم التراجُع المعرفي والتدهور العقلي عند الكبر”، مضيفًا: مع تقدم العمر يحدث تلف في بعض خلايا المخ، ولكن بوجود التعلم تتكون موصلات عصبية جديدة تتصل بالخلايا ويحدث تأقلم وتكيف، وهو ما يفسر وجود أشخاص متقدمين جدًّا في العمر ويحتفظون بذاكرة قوية ومعامل تدهور معرفي أقل .
بدوره، يؤكد “وليد هندي” -استشاري الصحة النفسية والحاصل على درجة الدكتوراة في العلوم النفسية من جامعة القاهرة- “ضرورة اتباع الوصايا التي تسهم في إبطاء الإصابة بالأمراض العصبية التنكسية، وأهمها الحفاظ على معدلات نوم صحية، خاصةً أن هناك دراسات ذهبت إلى أن قلة النوم قد تكون علامة مبكرة على الإصابة بالخرف، محذرةً من أن الأشخاص الذين يعانون بشكل دائم من صعوبة في النوم تزداد فرص إصابتهم بالخرف بنسبة 49%، في حين أن الأشخاص الذين يستيقظون ليلًا ويصعب عليهم النوم ثانيةً يزداد لديهم خطر الإصابة بالخرف بنسبة 39%”.
ويضيف “هندي” في تصريحات لـ”للعلم”: تعمل قلة النوم على ترسُّب بعض البروتينات فى القشرة الدماغية الخارجية، وهذه البروتينات مسؤولة بدورها عن العمليات المعرفية من الإدراك والتخيل والإبداع، ما يجعل الشخص أكثر تعرضًا للإصابة بالأمراض العصبية التنكسية .