الترجمة في اختصاص الأدب المقارن عند تأسيسه

بقلم : أ . د . بومدين جلالي... الجزائر 

من خلال ما عرضته أهم المصادر التي ناقشت بعض التاريخ العربي؛ يظهر جليا أن المثقف العربي المنتج -في أهم عصور الإنتاج الثقافي عند العرب- لم يكن يجهل الآخر المختلف، الغالب حينا والمغلوب حينا، وإنما كان يعرفه معرفة تتسع وتضيق بحسب ظروف كل عصر ومصر، ولم تكن تلك المعرفة تقتصر على ما هو تجاري أو سياسي أو إخباري عام وإنما مست مساحات كبيرة من هذا وتجاوزتها إلى ما هو ثقافي فكري وفق ما تقتضيه مستويات تجلياتها خلال الأحقاب المتتالية في حياة العرب( ). وضمن مسارها الطويل في التعرف على الآخر المختلف؛ لقد استثمر بعض نخب العرب قنوات متعددة لبلوغ تلك الغاية، منها الترجمة التي كانت لها بذورها قبل الإسلام( ) وكان تأسيسها الأول في عصر بني أمية، وتطورها في العصر العباسي حيث اتسعت ونقلت الكثير من العلوم والآداب عن الشرق والغرب، لاسيما عن الفرس والهند واليونان بواسطة الفهلوية والسريانية واليونانية، حيث باتت محل تنافس بين كبار خلفاء القرون الذهبية( ). وما إن انطلقت النهضة العربية الحديثة في القرن 19م واكتشفت ثلة من نخبها حضارة أوروبا من خلال تمكنها من أهم لغاتها حتى عادت الترجمة تدريجيا إلى واجهة الثقافة المعرفية في العديد من الفنون والعلوم، منها ما كان إرهاصا لنشأة الأدب المقارن والترجمة في مجال نظرياته.
أولا:
الترجمة الإرهاصية الممهدة للأدب المقارن:
ورد في تنظيرات الممارسة الترجمية أنها “ظاهرة تبادلات تتطلب رؤية واضحة ومحددة، ومفصلة للسياق الذي انبثقت منه والذي تتوجه إليه”( ) بمعنى أنها فضاء له خصوصياته الدقيقة المتمثلة في كونها تبادلات بين اللغات والثقافات والحضارات، في إطار الوضوح والتحديد، مدركة أصل انبثاقها وغاية توجهها، وهكذا “برزت الترجمة دائما ميدانا شاملا للتواصل، واكتسبت بناء على المعارف الجديدة دلالات عدة، ترمي في أساسها إلى تحديث المناهج الترجمية، التي يظهر أن أكثرها يتجه إلى المترجَم له ضمانا لحصول الإفهام وإيصال الرسالة”( ). ضمن هذا التوجه العام للترجمة -ببعض النجاح حينا وتجنبه أحيانا- وبغاية هادفة إلى إفهام العرب بما وصل إليه الآخر/ المختلف/ المتفوق، وبرسالة تنص على أن طريق العرب إلى التحضر هو محاكاة الغرب المهيمن في نظمه وفلسفته وعلومه وفنونه؛ لقد اشتغلت أقلام نهضوية كثيرة على الترجمة في مجالات معرفية متعددة، منها المجال الأدبي الفكري الذي يهم هذا البحث. وكانت الممارسات الترجمية المرتبطة بالفكر والأدب عصرئذ ذات مستويات متعددة مختلفة، أهمها ما يرتبط بالنصوص الكاملة، أدبية كانت أو ما يدخل ضمن هجرة الأفكار وآليات تطبيقها.
ففيما يخص النصوص الكاملة، لقد ترجم العرب مجموعة من الأعمال الإبداعية والطروحات الفكرية، منها على سبيل التمثيل:
– أجاكس وإلكترا – تأليف: سوفوكليس الإغريقي – ترجمة: أمين سلامة( ).
– البؤساء – تأليف: فيكتور هيغو الفرنسي – ترجمة: مؤيد الكلاني( ).
– الأم – تأليف: مكسيم غوركي الروسي – ترجمة: أحمد سويد( ).
– علم الجمال – تأليف: هنري لوفاقر الألماني – ترجمة: محمد عيثاني( ).
وفيما يخص هجرة الأفكار وآليات تطبيقها يمكن أن نحيل -من باب التمثيل- على ما أنجزه أحمد ضيف وطه حسين حينما هجّرا اللانسونية* وآليات تطبيقها في الحقل النقدي من الثقافة الفرنسية إلى الثقافة العربية( ).
وضمن هذه الحركية الثقافية الواسعة الممتدة من العصر الطهطاوي إلى عصر العقاد؛ لقد دخل إلى رحاب الثقافة العربية النهضوية المنفتحة الشيء الكثير من ثقافات الغرب الأوروبي بامتداداته الأمريكية، وكانت له نتائجه العامة المرتبطة بعموم المجتمعات العربية، كما كانت له نتائجه الخاصة التي أنجز من أجلها هذا البحث.
فيما يخص النتائج المجتمعية العامة لهذا الحراك الثقافي الواسع( )، لقد حدث ما يلي:
أ‌- انتقال فئات متعددة من المجتمعات العربية من حالة الخوف المطلقة من قوة الغرب الحضارية ذات الهيمنة الكبيرة على معظم أصقاع المعمورة إلى حالة أخرى مغايرة تماما للعهود السابقة، وهي موزعة على ثلاثة مستويات متوازية في غالبية معطياتها.
المستوى الأول: الحالة الانبهارية بالغرب، وهي التي سارت مسارا اندماجيا شاملا، داعيا إلى القطيعة مع الأصل والذوبان التبعي في هذا الآخر المسيطر دونما تصادم معه، لا في كبيرة ولا في صغيرة.
المستوى الثاني: الحالة التصادمية مع الغرب، وهي التي سارت مسارا سياديا كاملا، داعيا إلى التمسك بالأصل مع رفض الآخر المسيطر بالتصادم معه من أجل الكبيرة والصغيرة بغير استثناء.
المستوى الثالث: الحالة التوفيقية بين الأنا والآخر وفق مقتضيات الأوضاع السائدة، وهي التي سارت مسارا تجاذبيا بين المستويين السالفين.
مع الإشارة إلى أن هذه المستويات -بما لها وما عليها- هي التي أطرت القرن العشرين وما زالت قائمة إلى يوم الناس هذا، في كل المجالات والقطاعات.
ب‌- المواصلة الانتشارية الواسعة لثقافة الغرب المهيمن والعودة الإحيائية الواسعة لثقافة الأصل المقاوم، وقد صاحب ذلك أزمات واستفهامات وتسطيحات كثيرة جعلت المجتمعات العربية تلف حول ذاتها في معظم القضايا المصيرية.
وفيما يخص النتائج الخاصة الممهدة لنشأة الأدب المقارن والترجمة في نظرياته، لقد حدث ما يلي:
أ‌- انتشار الترجمة الإرهاصية الممهدة لظهور المقارنية عند العرب انتشارا واسعا عند المشارقة، وكانت مشخصة غالبا في الفنون الأدبية التي لا علاقة للعرب بها في سابق ثقافتهم مثل ما يوضحه النموذجان التاليان:
أ- 1- ترجمة إلياذة هوميروس بقلم سليمان البستاني في نهاية القرن 19م، مع الإشارة إلى المقدمة الهامة التي وضعها هذا المترجم لهذا النص العالمي؛ والتي قارن فيها سير الملحمة في ثقافة الإغريق والشعر القصصي في ثقافة قدامى العرب، مثبتا ما بين التراثين الكبيرين من تشابهات واختلافات، ونافيا أي تأثير وتأثر بينهما( ).
أ- 2- ترجمة مسرحية “عطيل” لوليام شكسبير بقلم خليل مطران في بداية القرن 20م، مع الإشارة إلى أن ما قام به مترجم هذا النص وغيره من أعمال شكسبير لم يكن مجرد ترجمة وإنما كان أيضا قراءة مقارنية تم من خلالها الوقوف على ما في نفس هذا الشاعر العبقري من شيء عربي( ).
ب‌- التأليف الإرهاصي للمقارنية باللغتين العربية والفرنسية.
وهو تأليف ناتج عن التبادلات الثقافية الفكرية التي أصبحت من أهم ظواهر عصر النهضة العربية، وقد كان كثيرا ومتنوعا، منه -تمثيلا- ما يلي:
ب-1- سلسلة الأعمال الواسعة التي قدمها طه حسين صوتيا وكتابيا لمقارنته بين بول فاليري وأبي الطيب المتنبي، وبين فيكتور هيغو وحافظ إبراهيم، وبين ابن حزم وستندال، وفرانتيز كافكا وأبي العلاء المعري، وغير ذلك في ما سماه عبد العزيز شرف بالنقد التقويمي المقارن( ).
ب- 2- التأليف المقارني التطبيقي في مطلع القرن 20م، مشرقا ومغربا، باللغة الفرنسية، وأهمه ما يلي:
ب-2-1- تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو، للباحث الفلسطيني روحي بن ياسين الخالدي الذي نشره سنة 1904م، وقد كان عنوانه الأصلي قبل ترجمته إلى العربية “دراسة حول فيكتور هوكو وحول الأدب عند الأوروبيين والعرب”( ).
ب-2-2- الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية، للعلامة الجزائري محمد بن أبي شنب، وهي دراسة تطبيقية -باللغة الفرنسية- رائدة في الأدب المقارن التطبيقي، نشرها صاحبها في المجلة الإفريقية سنة 1919م( ).
واستنتاجا من هذا العنصر الأول، يظهر جليا أن بواكير الإرهاصية التي اقتربت من تأسيس الأدب المقارن وممارسة الترجمة في حقل اختصاصه قد أصبحت جزء لا يتجزأ من عموم الثقافة السائدة عند العرب في العقود الأولى من القرن 20م، وكان من الطبيعي أن تؤدي إلى التأسيس المقارني والترجمة في مجاله.
ثانيا:
الترجمة في الاختصاص حين تأسيس الأدب المقارن:
ظهر مصطلح “الأدب المقارن” سنة 1936م في مجلة “الرسالة” المصرية* ولم يكن واضح المعنى، وما أصبحت دلالته دقيقة شيئا ما إلا مع منتصف القرن 20م، وبعد ظهوره في الصحافة الأدبية العربية ترجمة عن أصله في الثقافة الفرنسية كان تأسيسه الأكاديمي وفق ثلاثة مسارات مختلفة هي التدريس في الجامعات، والتأليف في كتب قائمة بذاتها، والترجمة في نظريته السائدة عصرئذ، وذلك خلال فترة التأسيس الممتدة من نهاية أربعينيات القرن 20م إلى نهاية ستينياته، كما حددها جل مؤرخي المقارنية الأدبية عند العرب( ). وقد تمت في تلك الفترة التأسيسية ترجمة كتابين في نظرية المقارنة الأدبية مع مقدمة لثاني الكتابين، وهذا بيان ذلك:
1- أول كتاب مترجم في فترة التأسيس( ):
– عنوان الكتاب في لغته الأصلية: La Littérature Comparée .
– عنوان الكتاب بعد الترجمة: الأدب المقارن.
– المؤلف: بول فان تيغم (Paul Van Tieghem 1871 – 1948 ).
– المترجم: طبع الكتاب بدون ذكر اسم المترجم، وبعد ذلك بعقود ذكر مؤرخو المقارنية العربية أن المترجم هو السوري د. سامي الدروبي (1921 – 1976)، مع الإشارة إلى أن في السيرة العلمية لهذا المترجم على النات لم يرد كتاب “الأدب المقارن” على أنه من مترجماته.
– سنة نشر الكتاب باللغة الفرنسية: 1931م.
– سنة الترجمة: لم تذكر سنة الطبعة في أول ظهور الكتاب، وبعد ذلك قدر مؤرخو المقارنية العربية على أنها بين 1945 و1948م.
– عدد صفحاته باللغة الفرنسية: 222 صفحة.
– عدد صفحاته باللغة العربية: 227 صفحة.
– الناشر الأول بالفرنسية: أندري برويار André Brulliard، ثم نشر عدة مرات.
– الناشر الأول بالعربية: دار الفكر العربي المصري، ثم نشر عدة مرات.
ملاحظة1: ترجمة الكتاب كانت ترجمة للمعنى أكثر منها ترجمة حرفية.
ملاحظة2: أعيدت ترجمة الكتاب بعد ذلك بسنوات بقلم سامي مصباح الحسامي.
2- ثاني كتاب مترجم في فترة التأسيس( ):
– عنوان الكتاب في لغته الأصلية: La Littérature Comparée .
– عنوان الكتاب بعد الترجمة: الأدب المقارن.
– المؤلف: المقارن الفرنسي ماريوس فرانسوا غويار (Marius François Guyard 1921- 2011)، بمقدمة للمقارن الفرنسي جان ماري كاري (Jean Marie Carée 1887- 1958).
– المترجم: د. محمد غلاب، ومراجعة د. عبد الحليم محمود (1910 – 1978) للكتاب ومقدمته.
– سنة نشر الكتاب باللغة الفرنسية: 1951م.
– سنة الترجمة: 1956م.
– عدد صفحاته باللغة الفرنسية: 126 صفحة.
– عدد صفحاته باللغة العربية: 193 صفحة.
– الناشر الأول بالفرنسية: Presse Universitaire de France، ثم نشر عدة مرات.
– الناشر الأول بالعربية: لجنة البيان العربي، ثم نشر عدة مرات.
ملاحظة1: ترجمة الكتاب كانت ترجمة حرفية أكثر منها ترجمة للمعنى.
ملاحظة2: أعيدت ترجمة الكتاب بعد ذلك بسنوات بقلم هنري زغيب.
ثالثا:
المادة المترجمة وخصوصياتها:
المادة الواردة في المترجمات المذكورة أعلاه هي خلاصة تطورات وتراكمات مادة معرفية واسعة ومتنوعة، كان حيزها الجغرافي فرنسا خصوصا وأوروبا عموما، وكان زمنها عصر النهضة في الغرب ومـــا وصل إليه من فكر فلسفي ونظريات علمية واستفادة في النقد الأدبي من الفكر والنظريات مع أواخر القرن 19م عند بروز البــاحث الفرنسي الكبير جوزيف تكست “J. Texte” الذي استقى الرؤية النظرية للأدب المقارن وفق الاتجاه التاريخي الوضعي، أو ما اصطلح عليه لاحقا بــ “المدرسة الفرنسية”( )، وهو ما يمكن تحديد مصادره العامة في أربعة مكونات، أولها الفكر الفلسفي وما وقف عنده في المدرستين التاريخية Historisme والوضعية Positivisme، وثانيها ما طرحه التقدم العلمي خاصة نظرية التطور La théorie de l’évolution، وثالثها التجريب النقدي الأدبي عند الكثير من أعلامه عصرئذ، أمثال سانت بيف Saint Beuve وغوستاف لانسون Gustave Lanson، ورابعا التجريب النقدي الأدبي المقارني المتطور عن الموازنات ابتداء من العقد الثالث للقرن 19م مع آبل فليمان Abel villemain * ومن تلاه من الفرنسيين و الغربيين**.
من هذه المكونات كان تأسيس جوزيف تكست لرؤيته المقارنية في كتابه المؤثر “دراسات في الأدب الأوروبي” سنة 1898م، ثم تسلم الرؤية النظرية بعده جيل فرنان بالدينسبرغر Fernan Baldensberguer الذي أسس مع معاصريه مجلة “الأدب المقارن/ La Littérature Comparée” سنة 1921م وكتب في العدد الأول مقالا محددا لماهية المقارنة وفق الاتجاه التاريخي السائد وحده عصرئذ، تحت عنوان “الكلمة والشيء/ Le mot et la chose” أين عرض بتركيز دلالة المصطلح وما يندرج ضمن خصوصياته المنهجية.
وبعد ذلك واصل الاتجاه التاريخي مساره مع جيل بول فان تيغم Paul Van Tieghem الذي ألف سنة 1931م أول كتاب ترجم إلى اللغة العربية في هذا الاختصاص. ثم توقف عند جيل ماريوس فرانسوا غويار Marius François Guyard الذي حول أطروحة أول نظرية في المقارنة إلى دوغمائية متشددة حين التطبيق.
وتمثل ذلك التشدد فيما يمكن استنتاجه من الكتابين المعنيين في العناصر الموالية:
‌أ- الأدب المقارن هو تخصص معرفي يندرج ضمن تطور الأدب الوصفي المتابع لتطورات الأدب الإنشائي عبر العالم، في مختلف عصور الأدب.
‌ب- هذا التخصص يدرس حركة الأفكار وما يدخل ضمنها بين الدول والحضارات والثقافات واللغات.
‌ج- غايته القصوى هو تصحيح التاريخ الأدبي الذي كان يكتب عموديا بمعزل عن محيطه الجواري لكي تصبح كتابته تجمع بين البعدين العمودي الآنف الذكر والأفقي الذي يأخذ بعين الاعتبار التبادلات مع الآخر المختلف.
‌د- المقارنة تكون أساسا بين أدبين كحد أدنى، دون مراعاة للجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل أو ذاك.
‌ه- التعدد اللغوي في الأعمال المدروسة ضرورة لا مناص عنها.
‌و- لا يكفي التشابه أو التقارب بين الأعمال المتناولة لتكون الدراسة مقارنة أدبية وإنما يجب إثبات الصلة التاريخية التي أدت إلى هذا التشابه أو التقارب كالترجمة والجوار والحرب والبعثات العلمية والتجارة وما إلى ذلك.
‌ز- إثبات التأثير والتأثر بين هذا وذاك في نهاية المطاف.
مع تركيز الكتابين المترجمين على العدة الكبيرة للباحث المقارن الذي يفترض فيه الموسوعية في معارف شتى إضافة إلى كونه وسيطا بين لغتين وثقافتين أو أكثر…
وهنا لابد من الإشارة إلى أن محتوى المادة الموجودة في كتاب فان تيغم هي نفسها الموجودة في كتاب فرانسوا غويار مع اختلاف بسيط هو أن الأول وسع التفاصيل والثاني قلصها وكأنه يريد أن يجعل من مؤلفه كتابا تعليميا. وهذه المادة هي أيضا نفسها التي استثمرها غنيمي هلال في كتابه المشهور “الأدب المقارن”( ) الصادر سنة 1953م، والذي يعتبره مؤرخو المقارنة العربية كتابا مؤسسا للأدب لمقارن عند العرب وفق المنظور التاريخي الوضعي.
والفرق بين كتاب غنيمي هلال والكتابين المترجمين لا يتعدى الأمثلة المستشهد بها، إذ سيطرت على كتابي فان تيغم وغويار نزعة المركزية الأوروبية L’Eurocentrisme بينما حاول غنيمي هلال أن يخفف قليلا من هذه النزعة ذات الأصل الاستعماري باستخدام بعض الشواهد من الحضارات الشرقية.
رابعا:
أثر المترجمات في التأسيس المقارني عند العرب:
إذا ما وضعنا ما ترجم في نظرية الأدب المقارن حين تأسيسه عند العرب وقابلناه ببعض الفهارس العالمية الاختصاصية التي ظهرت في هذه الثقافة أو تلك*، نجده لا يكاد يزن شيئا في هذا الحقل المعرفي الجديد. وإذا ما أضفناه إلى هذه المحدودية الجلية أن ما تمت ترجمته لم يكن عملا مؤسساتيا وإنما كان نتاج جهود فردية لا يدري أحد ما هي دوافعها الحقيقية حين اختيار الأعمال المعنية؛ ستتضاءل أكثر قيمة هذه المترجمات. وإذا ما نظرنا إلى اللغة المترجم عنها ووجدناها واحدة -برغم كثرة اللغات العالمية الحية التي تناولت الاختصاص بتوسع لا يخفى على بصير- تضيق جدا زاوية أهمية هذا الجهد الذي لا يبقى له سوى بعض فضل المساهمة الريادية في التأسيس العربي للمقارنية الأدبية وفق بعض مناهج الغرب المسيطر حضاريا.
هذا من باب القيمة العامة للمترجمات المعنية، أما من باب أثرها في التأسيس، فهو ما سيتضح من خلال العناصر التالية:
أ‌- فيما يخص كتاب بول فان تيغم -الذي كانت ترجمته بالمعنى لا بالحرف، وكانت مقبولة إلى درجة معقولة- فإنه نشر في أواخر أربعينيات القرن 20م، دون تاريخ للنشر ودون ذكر للمترجم أو المترجمين، ومع ذلك نفد بسرعة من سوق الكتاب وأعيد طبعه مرارا دونما أن يصبح سلعة بائرة. وبالتوازي، لا نجد إحالة عليه في صيغته المترجمة في كل مؤلفات التأسيس التي كان منها ما كتب عبد الرزاق حميدة ونجيب العقيقي وابراهيم سلامة وغنيمي هلال ومحمد البحيري وعبد السلام الطاهر وصفاء خلوصي ومجيب المصري وعبد المنعم خفاجي وفاطمة موسى وجاد حسن… وهذا التشخيص يدل على ظاهرتين مختلفتين، أولاهما أن الكتاب كان واسع الانتشار في بعض بلدان المشرق العربي، والثانية أنه كان يقابله حذر شديد عند الذين ألفوا في الاختصاص المقارني باللغة العربية. ولعل تفسير تلك الظاهرتين المتعارضتين نجده في الاستنتاجين الآتيين:
أ-1- انتشار الكتاب بصيغته المترجمة يعود لإدخال بعض الجامعات العربية الشرقية اختصاص الأدب المقارن ضمن مقررات نيل شهادة ليسانس في الأدب العربي، وذلك ابتداء من أربعينيات القرن 20م( ). وفي تلك الفترة كان التأليف في موضوعات المقارنة قليل جدا، ولا يمس صلب الاختصاص إلا في مؤلفات محدودة جدا ككتاب غنيمي هلال. وبالمقابل؛ كانت اللغة الفرنسية -التي نهل منها العرب المهتمون بالمقارنة في ذلك الوقت- غير منتشرة في أوساط الطلاب المشارقة، وهو ما جعل هؤلاء الطلاب بالأساس يعتمدون كتاب فان تيغم المترجم مرجعا في دراستهم ويشترون طبعاته الوحدة تلوى الأخرى طيلة فترة التأسيس.
أ-2- الحذر من هذا الكتاب المترجم عند المؤلفين في الاختصاص باللغــة العربية يعود -فيما أرى- إلى عاملين رئيسين، أولهما كون الكتاب قد كانت طبعاته الأولى تفتقر إلى المعلومات الضرورية (المترجم والتاريخ) وهو ما جعلها في نظر المختصين طبعات تجارية لا يعتد بها أكاديميا. وثاني العاملين أن جل الأساتذة من الذين اهتموا بالتأليف المقارني كان بإمكانهم الاستفادة من الكتاب في لغته الأصلية، والبقية اعتمدت على كتاب غنيمي هلال بعد صدوره في 1953م.
ب‌- وفيما يخص كتاب ماريوس فرانسوا غويار -الذي كانت ترجمته بالحرف أكثر منها بالمعنى، وكانت دون مستوى ترجمة كتاب بول فان تيغم- فإنه نشر في 1956م، بكل المعلومات الضرورية، لكنه قوبل أيضا بما قوبل به سابقه: سعة الانتشار عند العــــــامة والحذر الشديد عند الخاصة والسبب في ذلك -كما يبدو لي- ليس هو ما تم ذكره سلفا، وإنما هو:
ب-1- انتشار كتاب غويار المترجم بدوره، لم يكن بسبب قلة المؤلفات في الاختصاص وإنما جاء من كون الترجمة كانت جديدة في وقتها، والجديد بجلب الشباب إليه. ثم حجمه الصغير مقارنة بما سبقه، إذ مادته عبارة عن ملخص لمادة كتاب فان تيغم، وعموم الطلبة يلجؤون غالبا إلى الملخصات في المقاييس التي يعتبرونها ثانوية في اختصاصهم*. وهكذا كانت جدة الترجمة وحجم الكتاب وراء طبعه عدة مرات في زمن وجيز.
ب-2- حذر المختصين في المقارنة من هذه الترجمة جاءت من كونها أنجزت خارج دائرة الأدب، إذ كان المترجم د. محمد غلاب أزهريا متخصصا في الفلسفة الإسلامية، وكان المراجع د. عبد الحليم محمود أزهريا ثم أصبح شيخا للأزهر بأكمله( ). ومن المعروف أن الصراع خلال القرن 20م كان محتدما بين ذوي الثقافة الغربية وذوي الثقافة الإسلامية، وربما كان هذا هو العامل الرئيس الذي وقف حاجزا نفسيا بين المهتمين بالمقارنة في زمن التأسيس وبين هذا الكتاب المترجم. ويضاف إلى ذلك أن محمد غلاب لم يكن أصلا مترجما معترفا به وكذلك الأمر بالنسبة لعبد الحليم محمود، ودليل ذلك أنهما لم يتجاوزا هذا الكتاب إلى ترجمة غيره، وحتى في هذا الكتاب كانت الترجمة حرفية لا تعكس بدقة المعاني الأصلية التي قصدها مؤلفه. دونما أن نتجاوز الإشارة إلى أن كتاب غنيمي هلال الصادر في 1953م قد غطى على كتاب بول فان تيغم المترجم قبله كما غطى على كتاب ماريوس فرانسوا غويار المترجم بعده، وذلك لكون مؤلفه اعتمد على الاقتباس المباشر للكتابين المعنيين وغيرهما في اللغة الفرنسية الأصلية، مع تطعيم جهده -كما سلف ذكر ذلك- ببعض الشواهد الشرقية، من الثقافتين العربية والفارسية بصورة خاصة.
ونظرا لانعدام الأكاديمية في الكتاب المترجم الأول وضعف الدقة في الكتاب المترجم الثاني؛ لقد أعيدت ترجمتهما بعد فترة تأسيس الأدب المقارن عند العرب.
خامسا:
قراءة نقدية للمترجمات المعنية:
كما هو ثابت، عرفت الترجمة عصرين كبيرين مختلفين في تاريخ الثقافة العربية. العصر الأول كان في القرون الذهبية للدولة العباسية قديما، وتميز بظاهرتين اثنتين: إحداهما، الانفتاح على ثقافات الشرق والغرب المنتشرة عصرئذ، والثانية الدعم الكبير الذي ألزم به نفسه هرم السلطة الحاكمة تجاه المترجمات المختلفة( )، وكان أثر ذلك منمازا جليا في الثقافة العربية الإسلامية التي أصبحت هي الثقافة البشرية الأولى طيلة قرون متتالية، وذلك من دون أن تفقد خصوصية القيم التي تأسست عليها ومن غير أن يحدث ضعف أو خلل في لسانها المعبر عن تلك الخصوصية. والعصر الثاني بدأ في بداية النهضة العربية الحديثة وهو مستمر إلى يوم الناس هذا، وإذا ما اعتبرنا المترجمات/ موضوع هذه الدراسة نموذجا، فإن الترجمة إلى العربية في عصرها الثاني تميزت بظاهرتين معاكستين لظاهرتي العصر الأول. إحدى الظاهرتين في الترجمة الحديثة هي التوجه بالأساس إلى الثقافات الغربية، وبخاصة الثقافات المرافقة للهيمنة الاستعمارية على بلاد العرب مثل الثقافة الفرنسية ثم الثقافة الإنجليزية وغيرهما، ولعل مرد ذلك هو الانبهار بقوة الغرب الغالب ومحاولة محاكاته. والظاهرة الأخرى هي عدم الدعم من السلطة القائمة، استعمارية كانت أو وطنية بعد استرجاع السيادة، وسبب ذلك هو أن السلطة الاستعمارية لم يكن يهمها تعليم الشعــــــوب المغلوبة تعليما توعويــــــا بلسانها المحلي، وإنما كــــان يهمها تعليم مبــــادئ ثقافتها بلسانها الدخيــــل لتسهل -بعدئذ- التبعية التامة دون مقاومة مؤسسة على مرجعيات تأصيلية، وقد تحقق لها بعض النجاح النسبي. أما عند السلطة الوطنية فالثقافة بما فيها الترجمة لم تكن من الأولويات ولا من الاهتمامات البارزة. ومرد ذلك هو الانبهار الذي تحول إلى شبه تبعية تامة والعمل على تحجيم اللسان العربي المبين في النشاطات ذات التأثير الكبير كالتعليم العالي والبحث العلمي والاقتصاد وما إلى ذلك… من هنا، كانت الترجمة إلى العربية في العصر الحديث لا تتماشى وطموحات العارفين بضرورتها القصوى في الترقية الفكرية والتطور نحو فهم مكونات الحضارة الراهنة والولوج إلى عناصر القوة فيها. وضمن هذا المنظور العام، لقد وقفت حين معالجة المترجمات في نظرية المقارنة في فترة تأسيس الأدب المقارن عند العرب على ما يلي:
1- الانطلاق من نزعة تجارية:
بما أن أول كتاب ترجم تم طبعه دون تأريخ ودون ذكر مترجمه، وأعيد طبعه مرارا بالشكل نفسه من غير أن يطالب منجز ترجمته بنسبته إليه، يبدو أن تلك الترجمة جاءت لغاية تجارية لدار الفكر العربي بمصر، وقد أخذ المترجم مقابل جهده في حينه على أن لا يرد ذكر اسمه في الطبعات الأولى. وهذا ما جعل الكتاب المترجم يفقد، في صيغته العربية الأولى، المصداقية عند الأكاديميين المتخصصين في المقارنة الأدبية عند العرب. وهذا الاستنتاج ليس معناه إلغاء البعد التجاري للمترجمات وإنما معناه التزاوج بين البعدين الأكاديمي والتجاري فيها، مع تقديم البعد الأكاديمي عندما يكون الكتاب هاما علميا لكنه غير مطلوب كثيرا في السوق.
2- عدم تخصص المترجم:
من خلال الأداء في الكتاب الثاني المترجم، يبدو جليا أن المترجم والمراجع كليهما من هواة الترجمة من جهة، ومن البعيدين عن حقل الأدب من جهة ثانية. وهذا الاستنتاج يدعو إلى أن تكون الترجمة والمراجعة بأقلام ذات احترافية إتقانية عالية للغتين المشتغل عليهما، وفي الوقت ذاته متخصصة في المجال الذي تترجم فيه بحيث لا يمكن أن يترجم في المقارنة إلا مترجم مقارن متخصص في الحقلين معا، كما لا يمكن أن يترجم في الطب إلا طبيب متخصص، وهكذا دواليك.
3- الترجمة الفردية:
الإحاطة والإتقان في أي مجال معرفي يبقيان نسبيين نسبية عريضة عند الفرد الواحد، مهما أوتي من قوة. لذا كانت الترجمة الفردية والهاوية أحيانا، مثلما حدث في المترجمات الأولى في نظرية المقارنة، لا تفي بالغاية المعرفية في صورتها الدقيقة أو القريبة من الدقة. من هنا أصبح لزاما أن تتلاقى جهود الترجمة المحترفة المتخصصة الفردية في إطار مؤسساتي جماعي، وذلك حتى لا تبقي الترجمة مجرد إضافة كمية كما حصل في نظرية المقارنة حين تأسيس الأدب المقارن عند العرب، وإنما تتحول إلى إضافة كمية نوعية في مجال اختصاصها.
4- اللغة الواحدة:
كما سبق؛ اللغة الأصلية للمترجمات الأولى في نظرية المقارنة هي الفرنسية. وبرغم أهمية هذه اللغة في الحقل المقارني الأدبي على المستوى العالمي إلا أنها ليست الوحيدة التي أنجزت فيها مؤلفات تعد من المرجعيات الكبرى في هذا الاختصاص، إذ منذ القرن 19م وإلى غاية زمن التأسيس المقارني عند العرب الذي انطلقت فيه ترجمة مؤلفات المقارنة الأدبية المتخصصة إلى اللغة العربية أنجز مقارنون لهم قيمتهم المعرفية في لغات أخرى كالإنجليزية والألمانية والروسية وغيرها كتابات أثرت كثيرا ومازالت تؤثر في مسار المقارنية الأدبية النقدية في مستواها العالمي( )، ومع هذا لم يلتفت إليها العرب الأوائل في ترجمة نظريات المقارنة. وهذا الاقتصار على اللغة الفرنسية دون سواها، وبالذات على الاتجاه التاريخي في صورته الكلاسيكية، جعل المقارنة عند العرب تتأخر كثيرا عن التطورات الحادثة عصرئذ عند غيرهم من الأمم*. وهذا يجعلنا أمام حقيقة مفادها أن الذهاب إلى كل اللغات الحية لمعرفة أطروحاتها المختلفة ثم ترجمة ما هو ضروري منها في هذا الاختصاص أو ذاك هو السبيل الوحيد لإنجاز رؤية شاملة في هذا الحقل أو غيره.
5- اختيار نظرية مقارنية واحدة:
مثلما أشرت في العنصر السالف، كانت المترجمات من الاتجاه التاريخي الكلاسيكي الذي كان في لحظاته الأخيرة في فرنسا ذاتها وعلى المستوى العالمي. ولو كان للمقارنة عند العرب -والترجمة ضمنها حين التأسيس- إستراتيجية واضحة، وتم الإطلاع فقط على منجز الملتقى الثاني للرابطة الدولية في الأدب المقارن بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1958م** لكان مسار الأدب المقارن ومسار الترجمة في نظرياته شيئا آخر غير الذي تعرفه حاليا. وهذا يدعونا إلى الانفتاح لا على مستوى لغات التعبير وإنما أيضا على مستوى ما فيها من أطروحات واتجاهات وأفكار.
6- غياب نقد الترجمة:
في حدود ما وصل إليه إطلاعي في الموضوع؛ لم أقف على متابعة نقدية للمترجمات المعنية في زمانها وما هو قريب منه خلال خمسينيات القرن الماضي وستينياته. وغياب النقد للترجمة أو غيرها هو السير خبط عشواء -كما قال القدامى-، وهنا يبدو لي أن الترجمة التي تؤدي غايتها بنسبة تكاد تلامس الإطلاق هي التي تمر بالمراحل التالية قبل أن تصل إلى قارئها المقصود:
‌أ- اختيار العمل الآيل إلى الترجمة من لدن فريق من الخبراء في لغته الأصلية.
‌ب- ترجمة هذا العمل في إطار مؤسساتي جماعي بأقلام متخصصة.
‌ج- عرضه على نقد الترجمة.
‌د- مراجعته بأقلام تجمع الخبرة في اختصاص المقارنة الأدبية والتخصص في الترجمة.
طبعا هذا الطرح فيه شيء من المثالية ولكنه طريقنا الأوحد لتقديم المعرفة الصحيحة إلى غير المتقنين للغتها الأصلية التي كتبت فيها.
وفي الختام أقول: إن الترجمة نشاط عظيم للتواصل بين الأمم ونقل المعرفة من ثقافة إلى أخراة لكنها لن تغني عن ظاهرتين ضروريتين، أولاهما : الانفتاح العام على كل اللغات المنتجة للمعرفة في إطار خطة مدروسة لا تمس بالترقية المستمرة للغة الأمة، وثانيتهما : الإنتاج المعرفي بلغة الأمة وفق قيمها التاريخية انطلاقا من مساءلة الذات عن مناهج خاصة بنا في كل مجالات النشاط، ومنها مجال نظريات المقارنة، أدبية كانت أو غير أدبية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للمداخلة مصادرها ومراجعها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى