الهجرة نحو الهاوية
بقلم : العنود سعيد
كان ياما كان فى سالف العصر والأوان كان هناك رجلا يدعى عثمان في كل صباح يخرج للبحر لصيد السمك ،يعود لأسرته آخر النهار حاملًا بيديه سمكة كبيرة، تأخذها الزوجه بفرح وتقوم بتجهيزها لطعام العشاء.
رغم مايشعر به العم عثمان من الجهد إلا أنه كان في غاية السعادة ، يدخل على اولاده الصغار سامر و سليم يداعبهم حتى تنتهي الأم من عملها ،يحمد الله على الحياة المستقرة و الرزق الميسور.
مشهد الأب وهو يخرج للعمل نهارا ولا يعود إلا في الليل حاملًا بيده تلك السمكة كان يتكرر كل يوم ، لم يكونوا هؤلاء الصغار مدركين للجهد الذي يبذله والدهم لأجل الحصول على لقمة يسدون بها جوعهم.
مضت السنوات وكبر الأولاد، بدأ يظهر على سامر التذمر من أكل السمك ولا يروق له ذلك الهدوء المحيط بجدران منزلهم الصغير .
في يوم من الأيام شعر الأب ببعض الإرهاق فعاد للمنزل مبكرًا ،حين أقترب من الباب سمع صوت سامر وهو يتضجر ويصرخ في وجه أمه: ماذا سنتناول اليوم على وجبة الغداء ؟ نعم ، نعم اعلم ما ستقولين أنها تلك السمكة التي اهترأت بطوننا من تناولها كل يوم ،لقد سئمت ُ من هذا الروتين القاتل،النوم مبكرًا ثم الاستيقاظ للمدرسة التي لا أودُ فيها رؤية ذلك المعلم المتعجرف ثم ماذا بعد؟.. العودة للمنزل لأكل هذه السمكة الغبية.
الوالدة: احمد الله يابُني على هذه النعمة فغيرك قد لايمتلكها ،أنظر حولك فهناك من لا يجدون منزلًا يأويهم من العراء وبطونهم خاوية تتضور من الجوع …في أثناء الحوار دخل الأب على غير عادته وملامح التعب تبدو عليه.
الام: خيرًا يا أبا سليم تبدو متعبًا بعض الشئء، أتيت اليوم مبكرا على غير العاده ؟!
الاب: لقد شعرتُ بالتعب ولم أحتمل حرارة الشمس القوية ، يبدو أنني كبرتُ ولم اعد قادرًا على العمل.
سليم: لقد أفنيت شبابك يا أبي في توفير حياة كريمة لنا، حان الوقت كي ترتاح.
الاب بسخرية: ومن يأتي لنا بعشاء هذه الليلة ،تلك السمكة الغبية كما يذكر سامر لم أتمكن من صيدها هذا اليوم، أتظن يا سامر إن ما أقوم بها كل يوم عملاً سهلاً ؟!..إقترب مني قليلًا أيها الفتى، انظر لتلك اليدين ،انظر لهما جيداً ما الذي تراى فيهما؟
طأطأ سامر راسه خجلًا ، أرى تشققات وجروحًا غائرة…يصمت الأب قليلًا: منذ عشرين سنه وأنا كل ليلة أوي فيها لِفراشي أجلب معي من العطارة مرهم بثمنً بخس علهُ يخفف بعض من تلك الألم لأتمكن من النوم و أعود في الصباح لمزاولة عملي و آتي لكم بالعشاء ، لن تستطيعون النوم وبطونكم جائعة أنني اعي ذلك جيداً يا أبنائي ،اغرورقت عيناهما بالدموع.
سامر: لقد قررتُ الهجرة يا أبي،سأبحث عن مكان أفضل وعمل يدرُ علي مالا كثيراً، لم اعد أطيق البقاء في هذا البلد.
لحظة ذهول وحزن تنتاب الوالدين بعد ان خابت آمالهم في هذا الأبن العاق.
الاب: حسناً يا بُني قبل أن تغادر سأقدم لك نصيحه واحتفظ بها جيداً حتمًا ستحتاج لها في يوم من الأيام .
سامر : أرجو أن توجز بالنصيحة يا أبي.
الأب: ربما يا بُني لم أتمكن من تحقيق كل أحلامكم لكن ثق أنني لم آلو جهدا لأوفر لكم حياة أفضل،أينما رحلت في أرض الله الواسعة لن تجد ادفىء من حضن وطنك ، تنام في كنفه أمن وتتنفس الحريه من هواءه ، بمرور الوقت سيطوق الخوف فؤادك وتجتاح الغربه روحك ،تلهث خلف الضباب تبحث عن نفسك التي تاهت منك منذ ان غادرت هذه الأرض الطاهرة…أذهب يابُني واكتشف بنفسك الفرق، أود فقط أن أمنحك صندوقًا صغير إحتفظ به جيداً ولاتفكر أن تفتحه إلا حين تُغلق كل الأبواب في وجهك تلك التي ذهبت لِطرقها، أرجوك يابُني حافظ عليه جيداً.
سامر: سأفعل ذلك يا أبي .
لم تكن تلك الليلة كسابقاتها من ليالي منزل العم عثمان،لم يستطيعان الوالدين النوم كبقية الليالي ، تمنيّا ان تكون تلك الليلة مجرد كابوس .
أشرقت شمس الصباح و انزاح الظلام عن الكون، أسرعت الأم إلى الغرفة وعلامات القلق تبدو على وجهها،كان قلبها يخفق من الخوف ان تجد ما لا تود رايته وهو رحيل أبنها.. باب غرفة سامر مفتوحًا على غير عادته، وقفت الأم متردده للدخول، صوتًا خلفها يملؤه الحزن : لقد غادر سامر بعيداً يا أمي خلف سراب أحلامه، أخبرني أن اقول لكِ أنه بحاجة لدعواتك لعل التوفيق يلازم طريقه …مع بزوغ فجر ذلك النهار الغريب خرج سامر هائمًا على وجه وخطواته تسابق الزمن للبحث عن حياة مختلفة .
اخذ يشق طريق أحلامه،قلبه يتراقص فرحاً رغم ما يلوح في عيناه من الخوف للمجهول…وصل بعد مشقة السفر إلى مدينه تدعى (توبات) كان كل شيء غريب بالنسبه له،الزحام الهائل ،ملامح الوجوه ، أحاديث غير مفهومه ومشردين في الشوارع لا مأوى لهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء لكل منهم حكاية مختلفة لا أحد يعلم تفاصيلها غيرهم .
في أول ليالي الغربه ينتاب سامر شعور بالخوف ، الكل يحدق إليه وكأنه قادم من كوكبًا اخر …استأجر غرفة صغيرة ، يتململ على الفراش عله يستطيع النوم بعد أيام مثقلة بالتعب وبعد محاولات عده غط سامر في نوم عميق ولم يستفيق إلا على طرقات صاحبة الغرفة تطلب منه إيجار اليوم أو مغادرة المكان…بداء يشعر بالتوتر والتعاسة فالحياة هنا تزداد صعوبة بالإضافة لحاجته للمال وإلا اصبح مصيرة مثل مصير أولئك المشردين…اخذ يهيم على وجه مثقلًا بالهموم والتفكير في المستقبل يتضور جوعًا، متشبثًا بذلك الصندوق الذي اعطاء اياه والده…بعد أيامًا متواصلة من البحث والنوم في العراء وجد نفسه أمام مطعم للمأكولات البحرية ، وقف ينظر من بعيد يسيل لعابه لذلك السمك المشوي الذي اعاد له صورة تلك السمكة التي كان يجلبها والده معه كل يوم للعشاء…ابتعد قليلًا،جلس على الأرض،اخذ يُحدث نفسه (كم أنا أحمق تركتُ وطني لأجل البحث عن حياة آخرى وها أنا لا أجد هنا ما اسد به جوعي، يالا الخيبة كنت أظن الحياة خارج تلك القرية أجمل..) رفع راسه وإذا برجل يمد له قطعه من السمك ، التقطها وأكلها بشراهة وكأنه يتذوق طعمها لأول مره، بقي الرجل واقفًا يحدق في الصندوق بطريقه مخيفة فادرك سامر بأنه يود سرقته ،سرعان ما تذكر وصية ابيه في المحافظة على هذا الصندوق مهما كلف الأمر…لم يأبه الرجل اللحاق به، هرول سامر مسرعًا لعله يجد من يحتمي به من شر هذا الرجل، حاول إنتزاع الصندوق منه بالقوة فما كان من سامر إلا أن استمات في الدفاع عن الأمانة التي أعطاه إياه والده رغم عدم معرفته ما بداخله لكنه كان يشعر بالأمن كلما توسدها تحت رأسه…
غادر الرجل بعد ان أيقن أنه لن يتمكن من الحصول على هذا الصندوق و الذي ربما قد لايستحق ما بداخله كل ذلك العراك… أصابه الذهول من هول ما رأى، اخذ اليأس يحاصره بكل قسوة ،بدءا يتيقن أن هذا المكان لا يناسبه وأستشعر بعمق تلك اللحظات الهادئه التي كان يعيشها في قريته ومنزله الصغير و طعم تلك السمكة التي كانت سببًا في خروجه من قريته .
أسئلة تدور في راسه تنتابه كلما شاهد هؤلاء المشردين في أوطانهم تلك التي لم تنتشلهم من فقرهم فكيف حال من جاء لاجئ إليها؟! كل شيء هنا ينكر وجوده وكآن الزمن توقف به لحظه خروجه من وطنه …تاهت به الدروب وضاقت الدنيا في عيناه، اخذ يلوح في وجدانة حضن أمه وحنانها الدافق وصوت ابيه وهو قادم من البحر يحمل بيديه تلك السمكة الطيبة…في لحظه أدرك تيقن سامر أنه كان يلهث خلف أوهامًا زائفة وهجرة تجرة نحو الهاوية فقررا بلا تردد العودة لأحضان الوطن …بعد ابتسامة ساخرة وتنهيده طويلة تذكر أنه لا يملك شىء من المال فكيف يمكنه العودة لأرض الوطن ؟! ..لحظات من الصمت، تذكر سامر الصندوق وحديث والده حين أكد له الحفاظ عليه وعدم فتحه إلا إذا قرر العودة للوطن ولِقريته وأهله.
يعاتب نفسه : استحق ما حدث لي ،لم اعد قادرًا على البقاء هنا ،سوف افقد الأمانة إن لم أسارع بالعودة…بيدان مرتعشتان امسك سامر بالمفتاح ،أدخله في قلب ذلك الصندوق الخشبي ،ببطئ شديد فتحه وإذا بهذا الصندوق مملوءا بالمال،أصابه الذهول من هول ما رأى، اخذ يقلب الصندوق وهو يتمتم بصوت منخفض : يا للهول، كل هذا الوقت أعيشه في ضيقه وأنا احمل الفرج بين يداي…أمعنا النظر جيداً وإذا بظرف صغير داخل الصندوق فتحه بسرعه…(أبني العزيز سامر أرجو أن تكون بأفضل حال، أبقيتُ لك هذا المبلغ الذي لم أتمكن من جمعه بسهولة ، أنه ثمن الأسماك التي كنتُ اصطادها كل يوم، أدخر جزء منها لوقت ضيقه قد تحلو بنا في المستقبل، كنت اعلم جيداً ان الغربه ستلتهم جسدك وقلبك الصغير ، ستهزمك وستواجه الكثير من مصاعبها،أظن يا بُني بأنك حين قررت فتح الصندوق ادركت قبلها قيمه الوطن والانتماء له…ثق يابُني أن الوطن هو الحضن الدافئ والملاذ الأمن ولن تجد السكينة إلا على أرضه ؛أنه أشبه بحضن الأم نفزع إليه من مخاوفنا فنجد الأمان بين ذراعيها..عد يا بُني متى ما شعرت بالحنين للوطن و تأكد بأنه سيفتح ذراعيه بكل الحُب لأبناءه العائدين من وعثاء الغربه مهما بلغ حجم جحودهم )
انتاب سامر الحزن من ما قراء في الرسالة واصابة الندم على مافعله بأسرته التي لم تتأخر دومًا عن منحه الحُب والعطاء.
بعد مرور أشهر وفي إحدى الصباحات وقبل أن يهم الوالد بالذهاب للعمل، سمع صوت طرق على الباب، توجه لفتحه وإذا به سامر ،صرخ الأب فرحاً واخذ يعانقه بشوق ولهفة، أتَت الأم وسليم على صوت سامر و السعادة تغمرهم بعودته …بعد عناقًا طويل دخل سامر لمنزله والحنين يكابد قلبه لكل زاوية منه ،بصوت يملؤه الخجل : أبي أود الذهاب معك للبحر حتى تعلمني مهنة الصيد ، لقد تعلمت الدرس يا أبي لكن الثمن كان قاسيًا ، خذلتكم وخذلت وطني ولم اعرف قيمه الأرض والوطن إلا بعد أن اسقتني الغربه من كأس مرارتها..اخذ الأب ابنه في حضنه (الحمدلله أنك يا بُني وعيت الدرس، ومنذ الغد ستذهب معي للعمل في صيد السمك…النهاية
رسائل أخيرة من نبض الوطن..
-لا تلهثو خلف زيف الأحلام فالوطن هو الحلم الكبير و الحضن الدافئ والملجأ الآمن والحُب العظيم.
-لن تنهض الأوطان إلا بجهد أبناءها البررة فكونوا أيها الأعزاء لأوطانكم أوفياء.