بقلم: ثمنة الجندل
في أجواء الخريف الجميلة، وفي ركن الطفل بمجمع السلطان قابوسللثقافة والترفيه.
أتيحت لي الفرصة بأن أقدم عدة حكايات شعبية منالتراث الشعبي الظفاري، والتي يطلق عليها في ظفار ” الحزاية“، وعلى الحكواتية “المحازية“.
وعادة الحكواتية هي الجدة أو السيدةالكبيرة في البيت، تبدأ الحزاية بقولها: “يا حزاية أحزيلكم، والحزنما هو لكم، إلا لخصمكم وعدوكم“.
وتنهيها بعبارة:” اشتكت والتكت وفي حبال السرير انطوت”. إنها المرة الأولى التي يحظى فيها الأطفال بالاستماع إلى حكايات الحكواتي.
كانت حكايات وقصص الحكواتيين شائعة في ظفار، لكن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية بما فيها التلفزيون والسينما ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، أنهت دور الحكواتي. وفى محاولة موفقة أعادت دائرة الثقافة بالمديرية العامة للثقافة والرياضة والشباب الروح لهذا الموروث الثقافي الجميل الذى أوشك على الاندثار.
جلس الأطفال برفقة أمهاتهم حولي، وهم في غاية الانتباه والهدوء، مشدودين لما ستقوله” الحكواتية” من كلام سحري. سردت لهم الحكاية باللهجة المحلية الظفارية، الآسرة للقلوبوالعقول بجمال ألفاظها وكلماتها وصدقها ودفئها وثراء معانيهاوتأثيرها الإيجابي على المستمعين. أعتقدتُ بأن الصغارسيواجهون مشكلة في فهم بعض الكلمات المحلية القديمة، وسيؤثر ذلك سلبا على فهمهم لأحداث الحزاية.
لكنني تفاجأت بأنهم يعرفونكل الألفاظ، ويفهمون كل الأحداث، ولديهم القدرة على التحليلوالنقد، وحفظ الأمثال المصاحبة لبعض الحزايات. لقد شبهواحزاية (فطيمون وعويشون) بالقصة العالمية (سندريلا)، و حزاية(سبلة اللؤلؤ) بقصة (رابونزل – Rapunzel). ومما يجدر ذكره، بأن الأطفال في الركن يمكثون أوقاتا طويلة قد تمتد إلىعدة ساعات، دون اصطحاب هواتفهم أو أجهزتهم اللوحية، أو حتى مجرد التفكير فيها، وهم الذين كانوا لا يتخلون عنها أبدا مهما كانت الظروف. جذبت الحكواتية انتباه واهتمام الأطفال بالحكايات الشيقة وبأسلوبها السهل الممتع، يستمعون الأطفال بشغف وشوق للحزاية، وصل بهم الاندماج والانغماس إلى درجة أنهم تألموا عندما ضرب السوط السحري الطفل القزم في حزاية ” شبير والبئر”. وغضبوا جدا من العجوز التي حولت أخوان فاطمة إلى حجر فيحزاية “فاطمة النبعة وإخوانها السبعة”.
وصدحوا فرحا، وتعالت هتافاتهم بالمدح والثناء عندما انتصر الخير على الشر في حكاية ” الأعور الكذاب”. حكايات وقصص الحكواتي تشعل وتشغل خيال الصغار، فيخترعون عوالمهم الخاصة ويلونوها بمزاجهم وعاطفتهم بما سمعوه من الحكايات، سواء إن كانت واقعيةوحقيقة، أو حكايات من التاريخ والتراث الإسلامي ، أو حكايات الخيال و الجن والسحر والحكايات العجائبية وغيرها. من خلال هذه الحكايات يتعرفون على موروثهم الثقافي الشعبي الثريبالقيم الأخلاقية والفنية والجمالية، العاكسة للإبداع المجتمعي، بكلمعتقداته وعاداته وتقاليده وتجاربه في الحياة، التي يفتخرون بهاوتعكس هويتهم الوطنية والاجتماعية.
بعد الانتهاء من سرد الحكاية، تتم مناقشتها، وذكر الدروس والعبر والأخلاق المستفادة منها. وأحيانا بعد الانتهاء من الحزاية، يقومبعض الأطفال بتقمص دور “الحكواتي” ويمتلئون فخرا وفرحة لهذاالإنجاز الجميل، كما يقوم الأطفال بمسرحة الحزاية لإضفاء هالة من الفرح والمرح والضحك. ومن ثم تأتى الفقرة الحماسية في جلسة الحكواتية، وهي طرح الأسئلة والإجابة الصحيحة عليها، وسط تفاعل وصيحات وتصفيق الجميع. من أجمل اللحظات في حياة الطفل، والتي يثبت فيها أنه على أتم الاستعداد بأن يتخلى عن جهازه المضيء؛ هي عند استلام الجائزة والحلوى المرافقة لها. وكم يسعده ويبهجه بأن يرافق تلك الهتافات الجميلة؛ أحضان دافئةوقبلات حانية من أمه أو معلمته أو الحكواتية. فهذا يعنى له الكثير، يعنى بأنه أنجز وبذل مجهود، وعليه حصل على الجائزة المناسبةوعلى المحبة الصادقة. وأشادت الأمهات بالدور الرائع الذى تلعبه الحكواتية، واختيارها الحكايات المناسبة التي تجمع بين التشويق والمعرفة، وتحميلها رسائل تربوية واجتماعية ودينية، تساهم فيتهذيب وتأديب الأطفال، وغرس القيم و الأخلاق الحميدة، والتعبير عنالذات. برنامج الحكواتي، وغيره من البرامج و الأنشطةالترفيهية المختلفة التي تقدم بطريقة مشوقة وجميلة، تبهج الأطفال، وتسعد قلوبهم، وترسم الرضاء على وجوههم، وتساهم في تشتيتأذهان وعقول الأطفال عن الهواتف الذكية وتبعدهم عنها.
لأنالأجهزة الإلكترونية والألواح المضيئة ، التي أصبحت جزءا لا يتجزأمن حياة الأطفال. وأصبحت مصدر قلق عليهم، خاصة عند الاستخدام المفرط والمبالغ فيها، قد تسبب لهم الإدمانعليها، واصابتهم بالأمراض النفسية والجسدية وغيرها من المؤثراتالسلبية على حياتهم.
من التكتيكات الجميلة لإبعاد الأطفال عن الالتصاق بهواتفهم، على الأسرة بأن تغمرهم بالقصص الجميلة الجذابة؛ ليس لأنها تأخذهمإلى عوالم سحرية وشخصيات خيالية؛ بل لأنها تساعدهم في تطوير مهارات التواصل، وإثراء قاموسهم اللغوي، وإكسابهم مهارات القراءة والكتابة، وترسيخ القيم والمبادئ السامية فيهم. يفضلالأطفال الاستماع إلى الصوت الدافئ والمعبر أثناء سرد الحكايات من المعلمة أو الأم، أكثر من مشاهدة الصور النمطية الجاهزة فيالأجهزة الإلكترونية، لأنها خالية من الأحاسيس والمشاعر، و الإضاءة المنبعثة منها ترهق وتتعب أعينهم، وتفقدهم التركيز والخيال والمتعة.
محاكاة دور الحكواتية عند قراءة الحكايات لهم، واستلهام اسلوبهاالشيق، وكلماتها السلسة والسهلة؛ ستغرس في أنفسهم حب الكتاب وعادة القراءة.
وهذ يقودنا إلى أهمية زيارة الأطفال المستمرة للمكتبات التقليدية التي تضم في جنباتها مئات العناوين الشيقة مثل: مكتبة مجمع السلطان قابوس للثقافة والترفيه، ومكتبة دارالكتاب وغيرها من المكتبات؛ لتزويد الأطفال بالمعلومات والمهارات اللازمة لبناء شخصياتهم. وستساعدهم بطريقة أو بأخرى فيالتخلي رويد رويدا عن استخدام الهواتف الذكية بشكل مفرط.