الدكتور محمود زايد يكتب عن الحالة الكردية
في الذكرى الـ 39 لها؛ تظل «مأساة البارزانيين» من الجرائم الأبشع والأكثر وحشية ودموية التي ارتكبت في القرن العشرين؛ وكأن مرتكبيها كانوا يحاولون التفوق على ما ابليت به البشرية في الحربين العالميتين الأولى والثانية. فكثيرًا ما اقشعرت أبداننا، وشابت رؤوسنا، وضاقت بنا الأرض ذرعًا من هول ما قرأنا عن جرائم أفراد وأنظمة بحق البشرية عمومًا، لكن ما ارتكبه نظام صدام حسين ضد الكورد عامة، وضد البارزانيين خاصة (شيوخًا ونساءً وأطفالا) في 31 يوليو/تموز 1983م كان أشدّ وأقسى وأفظع؛ حيث يظل من وجهة نظري الأكثر وحشية عالميًا، كواحدة من الجرائم التي سبقت عمليات الأنفال عام 1988م.
إنها جريمة الدفن الجماعي لـ (8000) من الأحياء في خنادق مستطيلة، كبيرة وعميقة، أُعدت لذلك خصّيصًا في مكان مجهول في الصحراء، وبعد زجهم فيها جماعات فوق بعضهم يُهال عليهم الرمال باللوادر والجرافات! لتستويَ الصحراء كما كانت، ويبقى المكان سرًّا.
لقد أقام مسلمو العرب الدنيا ولم يُقعدوها في كتبهم ومواعظهم وخطبهم لقيام بعض كفار قريش بـ «وأد» بعض بناتهم، ولمنكري هذه الجريمة الحق في ذلك؛ لأنه اعتداء ذكوري صارخ على الأنثى لمجرد أنها وُلدت أنثى. لكن بخصوص «الوأدً العائليّ الجماعيّ للبارزانيين» من قبل نظام صدام حسين فإننا لم نسمع منهم حسًا ولا خبرًا، ولا بدر منهم صوت ولا نبر، بل أغمض بعضهم أعينهم وكأنهم لم يروا شيئًا، وصدق بعضهم أكاذيب إعلام صدام في قلب الحقائق وهللوا له في نوافذهم الإعلامية بجعل الضحية مذنبًا، وجعل المجرم بطلا يحمي الديار، وهناك من تلذذ بساديته في آهات وصراخات هؤلاء الضحايا، بحيث لم تكتمل نشوته إلا مع آخر جرّة رمل أتمّ بها دفن وإبادة الثمانية آلاف من البارزانيين.
حتى الآن لم أتستطع تخيّل الجينات التي كونت أرواح وأبدان هؤلاء الجنود وقادتهم من الضباط وكبار المسؤولين الذين ارتكبوا تلك الجرائم. علمًا أنهم من المفترض أنهم مُعيّنون ومُكلّفون لحفظ حقوق مكونات الشعب العراقي، وتوفير سبُل الأمان لهم، ودفع أي عدوان عنهم، وتهيئة بيئة الرخاء والاطمئنان لهم وللأجيال القادمة. لكن الواقع أثبت أنهم تفوّقوا في العداوة أكثر من عدوهم: اضطهادًا، وإفقارًا، وتهجيرًا، وسَجنًا، ونفيًا، وتدميرًا، بل وإبادةً بالرصاص والنابالم والفسفور والكيماوي، ودفن الأبرياء جماعات وهم أحياء، وفي ذلك تلذذوا وتفننوا في تنوع طرق الإبادة إرضاء لسيدهم!
كان ذنب هؤلاء الضحايا من البارزانيين أنهم أهالي وعوائل وأقارب بعض قوات البيشمركَه التي تدافع في الجبال عن حقوق الشعب الكوردي ضد هجمات واعتداءات القوات العراقية، ويتوقون للعيش على أرضهم بسلام وكرامة كغيرهم من شعوب العالم. ولما فشل نظام صدام في إسكات هذا الصوت انتقم منهم في عوائلهم المدنيين المساكين، من «الشيوخ والنساء والأطفال»، إذ لم تكتف المفارز العراقية بترحيل هؤلاء الأبرياء من ديارهم وقراهم البارزانية إلى قصبة «قوشتبه» بالقرب من أربيل فيما أسموه «المجمعات السكنية العصرية»، وإنما كان ذلك تمهيدًا لشحنهم في شاحنات عسكرية كشحن الدواب والبضائع، آخذين إياهم معصوبي الأعين إلى مكان مجهول عنهم، عُرِف بعضه بعد ذلك -ولا يزال- مع كل اكتشاف جديد لمقابر جماعية في صحراء السماواة بجنوب غرب العراق بالقرب من الحدود السعودية.
رغم قساوة هذه المأساة، وصعوبة تلك المشاهد التي نراها في كل ذكرى سنوية لها من أهالى هؤلاء الشهداء، فإن التاريخ يفيدنا أن من ارتكب هذه الجريمة وغيرها قد انتهوا بكل خزي وعارٍ إلى غير رجعة، ونال بعضهم جزاءه الأوليّ في الدنيا على مرأى ومسمع من الجميع، وأفادنا أيضًا: أن قضية الشعب الكوردي لم تبقَ على ما كانت عليه وقت مأساة البارزانيين، وإنما خطت خطوات كبيرة فيما كان يطمح إليه شهداؤها ومناضلوها بفضل تمسك الشعب الكوردي بشرعيتها، وجهود ومثابرة مسؤوليها قدر إمكاناتهم رغم ديمومة المصاعب والعراقيل الكوردية الكوردية، والكوردية العراقية، والكوردية الإقليمية، والكوردية الدولية.
مع ذلك، لايزال الطريق إلى الحقوق القومية طويلاً وشاقًا في ظل الأزمات الداخلية المعقدة، والأوضاع السياسية المضطربة والخطيرة بين مكونات البيت الشيعي في بغداد، واستمرارية الأطماع والتدخلات والاعتداءات الإقليمية على سيادة واستقلال العراق.
*الكاتب أستاذ أكاديمي وباحث في شؤون الشرق الأوسط