مقالات

سوريا بعد عام من «التحرير» دولةٍ تتعثّر فوق رمال الكراهية

بقلم المفكر والباحث الاستاذ حسين قنبر

بقلم المفكر والباحث الاستاذ حسين قنبر

مدير مركز دراسات الشرق للسلام

دبلوم في العلاقات الدولية والدبلوماسية والقانون الدولي

تواجه سوريا، بعد أكثر من عقد من الثورة والحرب والانهيارات البنيوية، لحظةً فارقة تُعيد فيها الأسئلة الأساسية إنتاج نفسها بقوة جارحة: هل شهدت البلاد فعلًا سقوطًا للنظام أم مجرد سقوطٍ للحاكم؟ هل تحقق التحرير بوصفه انتقالًا جذريًا في بنية السلطة، أم أُجري تبديلٌ للأقنعة ضمن بنية سياسية ثابتة؟ تبدو هذه الأسئلة انعكاسًا لوجدانٍ جمعي مُثخَن بالمأساة، شعبٍ قدّم من الضحايا واللاجئين والخراب ما لم يعرف له التاريخ الحديث مثيلًا، فيما بقيت الإجابات معلّقة في فضاءٍ سياسي غامض لم يتبلور بعد.

عندما انطلقت الاحتجاجات عام 2011، شكّل شعار «حرية – كرامة – عدالة اجتماعية» نواةً لمشروع تحوّل وطني يطمح إلى تأسيس دولة مدنية مؤسساتية تُنهي احتكار السلطة وتفتح بابًا لحياة سياسية تشاركية. غير أن المسار المتشابك للأحداث، ضمن بيئةٍ محلية وإقليمية ودولية مضطربة، قاد القوى الأكثر تنظيمًا وتسليحًا إلى صدارة المشهد، فيما تراجعت المبادرات المدنية أمام اتساع الفوضى. ومع الوقت، صعدت تشكيلات عقائدية مسلحة ملأت فراغ الدولة واحتكرت العنف، لتتحول تدريجيًا إلى سلطات أمر واقع ترفع شعار «التحرير» بينما تُعيد إنتاج آليات الحكم السلطوي نفسها.

وجاءت صدمة سقوط الأسد لتعيد فتح جرح الأسئلة المؤجلة: ما الذي تغيّر حقًّا؟ هل تحوّل النظام أم تغيّر رأسه فقط؟ هل الانتصار سياسي-اجتماعي أم هو نتيجة صفقة إقليمية ودولية رتّبت انتقالًا هجينًا للسلطة؟ وهل يمكن للّحظة التي سُمّيت «تحريرًا» أن تُختزل إلى انتقال السلطة من جماعة إلى أخرى دون مساسٍ بالبنية العميقة للسلطوية؟

لقد اتسعت الهوة بين الشعارات الأولى والواقع الماثل. فبدل أن تتجه البلاد نحو دستور جديد وعدالة انتقالية ومصالحة وطنية، وجدت نفسها عالقة في انسداد سياسي شامل، تغذّيه أزمة ثقة شبه كاملة بين مكوّنات المجتمع. تحوّلت الفترة الانتقالية إلى حالة مُلتبسة لا تعترف بانتقالها، وتقدّم خطابًا دينيًا أو طائفيًا أو ثوريًا بينما تمارس السلطة بآليات قديمة. ومع غياب الحوار ورفض الاعتراف بالآخر، انفتح المجال أمام موجات من الاستقطاب الحاد التي بددت فكرة الوطن المشترك.

وفي هذا السياق، صعد خطاب الكراهية إلى واجهة الحياة العامة، ليتحوّل من انفعال جماعي عابر إلى لغة سياسية شبه رسمية. مشاهد القتل على الهوية، والاجتياحات والممارسات الانتقامية في الساحل وحلب والسويداء وغيرها، كشفت عن تحوّل خطير: لم يعد «الانتماء السوري» هوية جامعة، بل صار سؤال «من أي طائفة أنت؟» يسبق كل تعريف آخر للإنسان. هنا يفقد المجتمع إحدى أهم ركائزه الأخلاقية، وتصبح رؤية شكسبير القاتمة—«الجحيم فارغ وكل الشياطين هنا»—أقرب إلى الواقع من الخيال، فيما يتردد صدى دوستويفسكي عند توصيف من «يتصارعون على الوطن لا من أجله».

وبعد عام على «التحرير»، يتبيّن أن سقوط الديكتاتور لا يعني سقوط الديكتاتورية. ما زال المشهد السوري يعكس إعادة إنتاج لأدوات السيطرة ذاتها، وإن بأسماء وشعارات مختلفة. يظهر خطاب سلطوي جديد، وتبرز ميليشيات تُعيد تعريف الوطن وفق هوياتها الخاصة، وتتم ممارسة الحكم بالمنطق ذاته الذي قاومه السوريون قبل سنوات. وهكذا يتجدد المعنى المرير الذي صاغه نزار قباني حين قال: «يذهب ديك ويأتي ديك… والطغيان هو الطغيان»، في إشارة إلى استمرار دورة الاستبداد مهما تغيّرت الأسماء.

إن السؤال الفلسفي الأعمق هنا يتعلق بمفهوم «التحرر» ذاته: ما التحرر إذا كان يعني إقصاء الآخر، أو تديين السياسة وتسليح الهوية، أو إسكات القوى المدنية، أو استبدال سلطة تسلطية بأخرى؟ أي معنى يبقى للحرية عندما يتحوّل مشروع التغيير إلى إعادة تدوير للأدوات القديمة داخل بنية جديدة؟

تُظهر التجارب العالمية أن الحرية ليست لحظة انتصار عسكري ولا تغييرًا فوقيًا للسلطة، بل عملية طويلة من إعادة بناء الوعي الجمعي، وترميم العقد الاجتماعي، وإرساء مؤسسات قادرة على احتواء التعدّد. غير أن سوريا، بعد عام من «التحرير»، تبدو واقفةً على حافة هاوية: إمّا إعادة اكتشاف معنى الوطن من خلال الاعتراف المتبادل وإعادة بناء الثقة، أو الانزلاق نحو مزيد من التصدّعات الطائفية والأحقاد المتبادلة.

وفي ظل هذا المشهد، يتردد قول علي شريعتي بوصفه نداءً أخلاقيًا: «لا يشترط أن نتفق… يكفي أن نفهم بعضنا». لكن المفجع اليوم أن السوريين لم يعودوا يفهمون بعضهم، وربما الأكثر إيلامًا أنهم لم يعودوا يحاولون ذلك أصلًا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى