شعر و قصص

​🎭 قناع الرخاء.. والوجه العماني الشاحب … ​ حلم مُعلَّب وراتب من الذهب

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي كاتب من سلطنة عُمان مسقط

​اليوم، عام ٢٠٢٥، لم يكن مجرد ميلاد يوم جديد، بل كان انطلاقاً لصفحة لم أكن لأجرؤ على تدوينها في أحلامي. أنا لكشمي، هندية الجنسية، في الحادية والعشرين من عمري، جئت من عمق قرية نائية إلى هنا، إلى بلد البترول والمعادن. لم آتِ لأبحث عن فرصة، بل جئت لأتلقف حلماً مُعلّباً أعدّه لي أبناء جنسي من المدراء في هذا الوطن.
​كان الاستقبال في المطار يليق بالوفود الهامة، سيارة خاصة وسكن مريح وسائق، والأهم من كل ذلك: مُنحت راتباً شهرياً يُعادل ثلاثة أضعاف ما يتقاضاه المواطنون في وظائف مماثلة. راتب يزيد عن ٢٢٩ ألف روبية هندية. إنه رقم لم يكن ليتحقق لي في بلادي حتى لو ضاعفت عمري وجهدي لعقدين.
​في أول أيام العمل، استقبلتني فتاة عمانية، مديرة الموارد البشرية. عندما طُلب مني طباعة سيرتي الذاتية، وجدتني أتصارع مع لوحة المفاتيح. لم أعرف كيف أُغير لغة الكتابة من العربية إلى الإنجليزية. لقد خجلتُ، وبالكاد استطعت إكمال مهمتي. نظراتها؟ كانت مزيجاً من الاستغراب الحاد وما حسبته أنا “حقداً”.
​لا أدري لماذا هذا الحقد من هؤلاء العرب، ألا يعلمون أننا نحن من نُديم دائرة الحياة الكريمة هنا؟ من البنية التحتية إلى الخدمات الأساسية، كل شيء يمر عبرنا. لن نأخذ منهم شيئاً كثيراً، فلماذا يُحاربون قدراتنا التي لا تتجاوز حدود العمل بلا كلل ولا ملل؟ سأصل إلى القمة هنا، بفضل تكاتفنا، لأننا في نظر أصحاب العمل، أقل تكلفة وأكثر انصياعاً.


​بعد أن غادرت لكشمي، وبقيت زينب – مديرة الموارد البشرية العمانية – وحيدة خلف مكتبها تنظر إلى الشاشة).

​النظرات التي وصفتها لكشمي بـ “الحقد” لم تكن سوى غُصّة ثقيلة ابتلعتها زينب بمرارة، غُصّة تجمعت من سنوات. سبع سنوات من الجهد، التدريب، والإتقان التام للغتين (العربية والإنجليزية)، أوصلتها إلى راتب لا يتجاوز ٦٠٠ ريال عماني. وفي المقابل، راتب لكشمي تجاوز الـ ٢٠٠٠ ريال عماني، وهي بالكاد تعرف كيفية التعامل مع إعدادات نظام التشغيل.
​هنا يكمن قناع اللطف الذي ترتديه الإدارة، الذي يبتسم للغريب بوجهٍ وادع، ولكنه يخفي تحت طياته الوجه الشاحب للابن المخلص للوطن.

​تمتمت زينب بمرارة وهي تتذكر دفعتها المتفوقة: “ثلاثة رواتب من المواطنين!”. لم يكن استغرابها ناجماً عن جهل لكشمي باللغة، بل كان صرخة روح سُحقت: أي سخرية قدر هذه، أن أكون أنا -ابنة الوطن- اليد التي تُوظف، وتُدرب، وتُذلّل الصعاب للغرباء، وفي الوقت ذاته، نحن الفئة الأكثر استحقاقاً والأقل تقديراً!

​إنها ليست مسألة “حقد”، بل هي إحساس مُدمر بأنك تجد نفسك تشارك في بناء قفصك بنفسك. أن تكون جسراً لعبور غيرك إلى القمة، بينما يُطلب منك الوقوف في الظل، راضياً بفتات الرخاء.
​في هذا الوطن، لم يعد السؤال هو: “لماذا يحقدون علينا؟”، بل أصبح: “لماذا أصبحت الكفاءة الأجنبية، حتى لو كانت متواضعة، عملة نادرة مُقدّرة بثلاثة أضعاف، بينما الكفاءة الوطنية المتقنة تُرخص وتبتلى بالبطالة؟”
​لقد كررت لكشمي عبارة “كان الله في عون الجميع”، لكن زينب أضافت في سرها: “وبالأخص… نحن من بقينا نرتدي قناع الود ونحن نرى استحقاقنا يُباع بثمن بخس.”

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى