مقالات

من الثورة إلى العشرية: تشكّل الوعي الجزائري بوحدة وطنية فوق سياسية

بقلم: المفكر والباحث الأستاذ حسين قنبر مدير مركز دراسات الشرق للسلام

تحتل فكرة الوحدة الوطنية في الوعي الجزائري مكانة تتجاوز السياسة المباشرة، فهي ليست مجرد خيار تنظيمي، بل نتيجة لمسار تاريخي طويل تخلّلته لحظتان تأسيسيتان: الثورة التحريرية وما تبعها من بناء الدولة، ثم تجربة العشرية السوداء وما ولّدته من صدمة عميقة أعادت تشكيل علاقة المجتمع بالدولة وبمفهوم العيش المشترك. هاتان التجربتان، بكل ما حملتاه من آلام وآمال، قدّمتا الخلفية التي تفسر لماذا تُعدّ الوحدة في الجزائر اليوم خطًا أحمر لا يُمس، ولماذا تتعامل الجماعة الوطنية معها كشرط للوجود قبل أن تكون بندًا دستوريًا.

لقد شكّلت الثورة التحريرية لحظة ميلاد الوعي الوحدوي، فقد جمعت بين مختلف شرائح المجتمع في مواجهة استعمار استهدف الأرض والهوية على حدّ سواء. لم تكن الثورة فعلًا عسكريًا فقط، بل عملية إعادة صياغة للذات الجماعية خارج الانتماءات المحلية الضيقة، حيث ظهر لأول مرة معنى “الشعب الواحد” في تجربة عملية لا في خطاب نظري. تشكّلت وحدة الجزائريين في ميدان القتال حين أدركت القبائل والحواضر وسكان الصحراء أن خلاصهم واحد وأن مصيرهم مشترك. ومن هذه اللحظة، وُلدت فكرة الدولة الحديثة باعتبارها الإطار الحامي لهذه الوحدة، وارتبطت إلى الأبد بسردية التحرير.

وحين نالت الجزائر استقلالها، وجدت نفسها أمام واقع صعب، فيه دولة مدمرة ومجتمع متعدد وتحديات خارجية وداخلية هائلة. لم يكن بالإمكان، في مثل هذا السياق، تبني نموذج مدني تعددي كامل منذ البداية؛ إذ كانت الأولوية لترسيخ كيان الدولة وضمان قدرتها على حفظ الاستقرار. لذلك اتجهت الجزائر إلى بناء دولة مركزية قوية تتولى إدارة الانتقال من زمن الثورة إلى زمن الدولة. لم يكن هذا الخيار رفضًا للمشروع المدني، بقدر ما كان استجابة لحاجة تاريخية فرضتها هشاشة المرحلة الأولى من الاستقلال.

لكن هذا البناء المؤسسي دخل اختبارًا قاسيًا مع بداية التسعينيات، حين انفجرت العشرية السوداء التي مثلت صدمة جماعية هائلة. في تلك السنوات، عاش الجزائريون تجربة تفكك الدولة وانكشاف المجتمع أمام العنف، ورأوا الوحدة الوطنية مهددة في جوهرها. لم يعد الانقسام خلافًا سياسيًا، بل خطرًا وجوديًا يكاد يعيد البلاد إلى ما قبل الدولة الحديثة. وهكذا أعادت العشرية تعريف الوحدة باعتبارها قيمة أخلاقية ووجودية قبل أن تكون قيمة سياسية، وترسخ إجماع داخلي واسع يرفض المساس بها مهما بلغت حدة الصراع السياسي.

ومن رحم هذه التجربة المؤلمة، بدأت ملامح مشروع مدني أشمل تتشكل تدريجيًا، خاصة مع الانفتاح السياسي وتطور المجتمع المدني واعتراف الدولة بالتعدد اللغوي والثقافي. لم يكن هذا التحول قطيعة مع الدولة المركزية، بل استكمالًا لمسار تطوري انتقلت فيه الجزائر من مرحلة تأسيس الدولة إلى مرحلة بناء المجتمع السياسي على أسس أكثر تمثيلًا وتعددًا.

وتبرز هنا أهمية دور النخب الفكرية ومراكز الدراسات، في تحويل التجارب التاريخية إلى معرفة قادرة على توجيه الحاضر واستشراف المستقبل. ففهم مسار الوحدة الوطنية ليس مجرد تحليل تاريخي، بل ضرورة لفهم التعقيد السياسي المعاصر، ولمرافقة تحوّل الدولة نحو نموذج أكثر مدنية من دون التفريط في ركائز الاستقرار الوطني.

إن التجربة الجزائرية تقدم درسًا عميقًا مفاده أن الوحدة الوطنية ليست شعارًا يرفع، بل خلاصة لمسار طويل صنعته المقاومة والذاكرة والخوف والإرادة. إنها الإطار الذي يحمي الجماعة الوطنية من التشظي، والقاعدة الأخلاقية التي تُبنى فوقها السياسة. ولذلك يبقى الوعي الجزائري حتى اليوم متمسكًا بفكرة الوحدة كقيمة فوق سياسية، وسقف يسمح بالاختلاف تحته دون السماح بالاقتراب من أساسه.

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى