كتاب الليث بن سعد في وجهة نظر الناقدة إيمان يونس: أضاء لنا منطقة مظلمة في تاريخنا المصري
القاهرة:
أكدت الكاتبة والناقدة د/ إيمان يونس أستاذ مساعد المناهج وطرق التدريس بكلية التربية (سابقا) جامعة المجمعة – السعودية، أن كتاب (الإمام المجدد الليث بن سعد الفقيه والمحدث والإنسان) والذي ألَّفه الدكتور أحمد علي سليمان عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، يعد إضافة مهمة للمكتبة العربية؛ كونه يتصدى لسيرة شخصية مصرية عظيمة، يجهلها كثيرون؛ لندرة المنقول عنها، وهو ما تطلب بالتأكيد باحثًا صبورًا قادرًا على خوض أغوار بطون كتب التاريخ والفقه والسيرة والحديث، واستخلاص الشتات المبعثر، وإعادة رسمه ونسجه لتكوين صورة متكاملة بديعة لا يملها القارئ.
وقالت “يونس” في دراستها النقدية للكتاب: إن الكتاب الذي يتناول سيرة الإمام المجدد الليث بن سعد الفقيه والمحدث والإنسان – والصادر عن دار زحمة كُتَّاب للثقافة والنشر- جاءت فصوله الثلاثة متوازنة في عدد صفحاتها ومضامينها، حيث استعرض الكاتب في الفصل الأول عصر الإمام الليث بن سعد بما يشمله من ظروف الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومناهج البحث العلمي المتبعة آنذاك في نقل العلوم والتدوين، بغرض تعريف القاريء بالسياق الثقافي والتاريخي وتأثيره على نشأة الإمام وحياته ومسيرته، في إعداد ذهني ونفسي موفق.
وأضافت “يونس” أن الكاتب انتقل برشاقة إلى الفصل الثاني ليتناول معالم شخصية الإمام المجدد الليث بن سعد من حيث: نسبه، ومولده، ونشأته، ورحلاته، وشيوخه، وتلاميذه، وصفاته، ومناقبه، ومكانته في علم الحديث والفقه، ووفاته، ثم جاء الفصل الثالث والأخير، والذي أفرده الكاتب لتناول بعضا من مصنفاته ومختارات من آثاره القليلة المدونة في الفقه والحديث وتحليلها، مشيدة بعنوان الكتاب الذي جاء واضحا معبرا عن المضمون، وهو ما يحسب لكاتبه حيث أحسن اختيار المقصود مباشرة لتناول شخصية الإمام الليث بن سعد (رضي الله عنه).
وأشادت الناقدة بأسلوب الكاتب المميز، وهو ما بدى واضحا في سلاسة المفردات، وتنوع أسلوب الكتابة حسب مقتضى الحال، ما بين السرد الأدبي الممتزج بفنيات السرد القصصي عند وصف الأماكن والمواقف والأشخاص، وإطلالات التشبيهات الجمالية، والوصف الشاعري ببعض مواضع الكتاب، إضافة إلى استخدام السرد الرصين تارة أخرى عند التطرق إلى ذكر التسلسل التاريخي للوقائع والأحداث، أو التحقيق العلمي للروايات المختلفة، فيجعلك تتنبه إلى معاني الكلمات، ويدفعك للتفكير في مضمونها فتقرأها أكثر من مرة؛ لتتبع سرد الأحداث واستنباط الأدلة، وكذلك استخدام النهج العلمي عموما في الكتابة مع تبويب منظم لمرويات الليث بن سعد الحديثية، ليجد القارئ نفسه ينتقل بين صفحات الكتاب مستمتعا، بكل فصل حيث يتسم كل فصل بأسلوب خاص ومختلف عن الآخر؛ ليقدم لك وجبة متنوعة للمتعة العقلية.
وثمنت الناقدة إيمان يونس، نجاح الكاتب في التأكيد على الرسالة التي يريد إبرازها للقارئ، عبر تكراره لتناول بعض الموضوعات، مثل مقولة الإمام الشافعي: “أن الليث أفقه من مالك ولكن قومه ضيعوه، وكان أتبع للأثر من مالك”، حيث طلَّت علينا في أكثر من موضع عبر صفحات الكتاب في نهج مقصود؛ للاستدلال على أهمية الشخصية المتناولة، كما رصد الكاتب مرويات الليث الحديثية، فقد بلغ مجموع ما أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن الإمام الليث بن سعد ألف وأربعمائة وواحد وستون حديثًا، كما برع الكاتب في سرد الواقعة على أكثر من محمل؛ لتفسيرها من زوايا متعددة، والخروج بصورة متكاملة تخدم العمل، كما في قصة هدم ابن رفاعة أمير مصر لدار الليث بن سعد ثلاث مرات، ويعيد الليث بناءها، والرؤية التي رآها في منامه، فأوردها في السياق التاريخي للفترة التي عاشها الليث وحكام مصر في الفصل الأول، وذكرها مرة أخرى كدليل على ارتباط الليث بمسقط رأسه وحبه لها في الفصل الثاني.
وأشارت الناقدة إلى المتعة الكبيرة التي صاغها الكاتب عبر الصفحات التي رسم خلالها سياسات واستراتيجيات التعامل مع الحاكم ومقومات صلاح حال الأمة وحال الناس وما يصلح للأمة وما يصلحها، وإبداع الإمام الليث والإمام مالك في أدب الخلاف والحوار، وتقبل الرأي والرأي الآخر والرجوع إلى الصواب بمنتهى الأريحية، كما ظهر في الرسائل المتبادلة بينها والتي تعد دررا ووثائق تاريخية شاهدة على عظمة هؤلاء الأئمة العظام؛ لنتعلم منها آداب الحوار وكيفية إقامة الحجة والاستدلال بالبراهين، لافتة إلى حاجتنا الماسة إلى ذلك في العصر الحالي، ولعلها دعوة لتضمين لمحات من حياة ومواقف الليث بن سعد في مناهجنا الدراسية ورسائلنا الدعوية بما تحتويه من قيم تربوية نفتقر إليها.
وقالت يونس إن الليث بن سعد لم يكن عالمًا بأصول الدين وفقيهًا مجددًا أو محدثا فقط، أو رجلا كريما بلغ أعلى درجات الإنسانية في البذل والعطاء وجبر الخاطر؛ بل كان إلى جانب ذلك صاحب رؤية استراتيجية لصلاح الوطن والمواطن وصون حقوق الناس ورعاية مصالهم والتأكيد على ما يُصلحهم، وهي رؤية ممتدة وقابلة للتطبيق عبر العصور، كونها غير مرتبطة بزمان ومكان، وإنما تقوم على أسس الأخوة والتعددية والعدالة والموضوعية وإعمال العقل، واستثمار الطاقات.
وشددت الناقدة على امتياز الكاتب والمفكر الدكتور أحمد علي سليمان وقدراته الواضحة في الكتاب على بالفصل بين انطباعاته وتفسيراته الشخصية لمسببات الأحداث عند سرد الوقائع التاريخية فيذكرها في هامش الصفحة؛ لتجنب الخلط بين الرأي الشخصي والحدث التاريخي، أمانة للنقل، كما ورد في تناوله لرحلة الليث بن سعد إلى الحجاز في الفصل الثاني، مستعينًا في التوثيق بعدد وفير من المصادر والمراجع والهوامش كما أثبتها في نهاية الكتاب.
واختتمت الناقدة حديثها بالتأكيد على أن هذا الكتاب أضاء منطقة مظلمة في التاريخ المصري؛ بإبراز شخصية يحق للجميع بل يجب على الجميع الافتخار بأنها نبغت بين ربوع هذا الوطن الذي باركه الله، ومنحنا الأمل في أننا وعاء لا ينضب ونهر مستمر للعطاء والثقافة والعلوم والآداب.