قصائد و مقالات

ذاك الوطن

بقلم عصماء بنت محمد الكحالية

حين نطقتُ بأولى إيماناتي المنبوذة إلى أبي، وأعلنتُ أن الكتابة ليست مجرّد هواية عابرة في مسار حياتي، بل هي وحدها ذلك الكيان الذي أتنفس من خلاله، ذلك النبض الذي لا يفارق ضلوعي، لم يكن أبي مجرد مستمع صامت، بل صار حارسَ العتبات الموصلة إلى قصر الحلم. لقد تفرّد في أن يكون الكائن الوحيد الذي حمل شعلة إيماني حين بدا الظلام معتمًا، هو الذي صاغ لي من الحروف جسرًا بين هشاشتي وصخب العالم.

لقد كان أول من ارتشف من ينابيع نصوصي المغلقة، أول من اقتحم أروقة أخطائي بحذر، لكنه في نفس الوقت كان من بذر بذور الصدق في قلبي، فحين وقفت حروفي على ناصية المجهول، كان هو الدليل الذي لا يتخلى عن يد المبتدئ، الذي لا يملّ في مدّ الحبل ليعلّق عليه أغلال الحيرة والتردّد ليصنع منها جناحًا يطير بي فوق قسوة الغربة والتشكيك.

كان في ذاته مرآة لا تخدشها أيدٍ، يُعانق نصوصي بنظراته الحانية، يقرأ ما بين السطور كما يقرأ الغواص قاع البحر، لا يبحث عن اللؤلؤ فقط، بل يستكشف العوالم التي تحجرت تحت طبقات الكلمات. لم يكن مجرّد أبٍ، بل أخٌ في غربة الحرف، وصديقٌ في عزلة الروح، وشريك في كل لحظة سقوط وانبعاث.

كان لا يعلمني فقط، بل كان يفتح لي أبواب الوعي على مصراعيها، ينسف فيّ كل بناء هشّ من كبرياء الذات، ويرفعني كطائر مُحبَط إلى أفق لا يدركه إلا من تجرّع مرارة المحاولة، كان يُعلمني أن لا أكتفي برؤية الحروف، بل أن أغوص في دمائها، أستنطقها، أتحاور معها كأنها كائنات حية ترفض الذوبان في النسخ المكررة.

لم يكن حبه لي محصورًا في الألفة الأبويّة التقليدية، بل كان حبًّا من نوع آخر؛ حبًّا خليقًا بأن يُخلّد في أروقة اللغة والوجدان، حبًّا أعظم من كلمات العشق ووعود الزمن، حبًا يتسع ليضمّ ضعفتي وشجوني، لحظات انكساري وقوة نبضي.

هو الوطن الذي لم أغادره، وهو الميناء الذي ترسو عليه سفينة أحلامي بعد كل رحلة تائهة، هو السجلّ الذي يحتفظ بسرّ الفجر في نصوصي، والمرشد الذي لا يكلّ عن إضاءتي في ظلمة الطريق.

فليعلم من يقرأ هذه الكلمات أن ليس كل أبٍ كالأبي، وأنّه ليست كل كلمات تُكتب قادرة على أن تحكي عُمق ذاك الدعم الذي تجاوز حدود المحبة، ليصبح وجودًا فائقًا للزمان والمكان، صديقًا، أخًا، وأبوّةً بمعناها الذي لا يمكن لأي قاموس أن يحويه.
فأيُّ قلبٍ يُمكن أن يتّسع للحرف، قبل أن يتّسع لروح كاتبِه؟

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى