الحكاية الثانية : التحية العسكرية

حكايات من الواقع ★

✍️د. ريم الحشار :

” لا تأتيك السعادة والرضى: الا بصفاء نفسك ونقاء روحك وحسن توكلك على الله”

في صباحات السابع عشر من سبتمر افقت وابتسامتي تتلغب على مكر النعاس. والذي كان يراودني ويغريني لاكمال النوم والتمتع بنعمة العيشه الهنية. فما كان مني لرد مكره سوى ان الجأ الى وسائل التواصل الاجتماعي لمتابعة الجديد فالساحه الاجتماعيه المحلية والخارجية.

واذا بي يشتد ناظري لمنشور اعلاني لاحدى الزميلات فالمجال الطبي والذي يدعوا ل “تحسين التشخيص من اجل سلامة المرضى” وذالك بمناسبة اليوم العالمي لسلامة المرضى.

واجترت الذكرى علاقه السفر بسلامة المرضى. فقد هيأ السفر لي اسباب مختلفه منها الانبساط والاستمتاع كما وكان احد الاسباب في تحسيني للتشخيص خلال مسيرتي المهنيه كطبيبه. ولا احد منا ينكر دور السفر في تسلية الروح وتجديد الطاقه والاستمتاع في اجواء مختلفه.

وقد استدعت الذكري سطور كتبتها عندما كنت بحالة من السعادة في احدى مناطق الريف الايطالي والتي استمتعت بها بجمال الطبيعه ولذة المخبوزات والقهوى الايطاليه. وكان ما استدعى القريحه في وقتها هو رغبتي بعدم مفارقة المنظر والحاله الشعوريه السعيدة.

فقلت في سطور:

أحتَلي حلوى الفُراقِ بِمُفرَدي

وأَرتَجي يومَ لُقياك بِأعيوني

ذَابَ الفُؤادُ وإعتَمى نَاظِري

وسَابَ الفِكرُ في حَنينِ أَشواقي

وهنا يأتي السؤال: ما هي علاقة السفر بسلامة المرضى والتشخيص السليم؟

وتبدأ الحكاية بذكراي مع العم ابو فهد وكيف تحولت علاقتي معه من النفور الى التجليل بالتحية العسكرية!

فما هي الحكاية ؟

بدأت معرفتي بالعم أبو فهد عندما كنت اعمل اكلينكيا في مجمع صحي يخدم شريحه سكانيه في رقعه جغرافيه معينه. وكان من اختصاصات هذا المجمع (المركز الصحي) هو متابعة صحة الاسر وبشكل دوري لتحسين مستواهم الصحي.

فقد كان العم ابو فهد هو احد افراد المجتمع الذي يتبع للمجمع الصحي وكان به احدى الامراض المزمنه★ والتي تستدعي فحوصات دوريه او سنويه, ولكن لم يخبره احد بذالك!

فاتيت وانا كلي حماس وبابتسامه, وكان العم ابو فهد طاعن فالسن ولكنه بصحته جيده فقد كان العم طويل, عريض المنكبين, به لحية ويرتدي نظاره لتحسين النظر.

فقلت وانا كلي سعاده وبعد الترحيب , وقد كان يرد الترحيب بنفور واشمئزاز:

عمي انت معك مرض مزمن★

قال: اعرف

قلت: وتحتاج فحوصات دم دوريه

واذا ببركان فائر وثوران وصوت عالي وهو يقول:

انا مافيني شي, انتوا بس تبو تخلوا الواحد مريض انا مافيني شي!

واستمر وهو يحاجني انه ذهب الى كل المستشفيات ولم يذكر له احد انه يحتاج لاي شي وانه سليم؛ واضاف انني دكتوره صغيره قليلة الخبره ولا اعرف شي!

كان الحوار معه شبه مستحيل وإقناعه اصعب وتنافرنا وبدا للناظر الاختلاف الواضح وكان المشهد ينذر بقرع طبول حرب البسوس فالمركز الصحي. ولكنني رغم ذالك كنت اطلب له الفحوصات وبلى جدوى؛ فلم يكن يحضر لناخذ عينات الدم المخبريه!

وفي يوم من الايام؛ اتى مع ابنته فالفتره المسائيه وكانت به حمى طفيفه وضغطه عالي جدا جدا.

وهنا ساعود لذكرى السفر!

فقد كنت قبلها باسابيع عائده من سلطنة بروناي★ والتي ارتحلت اليها برغبه وجهد شخصي للاستثمار والتطوير العلمي والوظيفي للتقديم في الزماله البريطانية للطب العام والذي سبقته استعدادات تدريبيه نظريه واكلينيكيه★, والتي كان للسفر فيها ايضا دوراساسي لحضور الورش التدريبيه المسبقه والاستسقاء المعرفي من الخبرات العالميه.

ففي سلطنة بروناي والتي تتميز بجوها الاستوائي ومن باب العلم بالشئ؛ فان من احد الامراض انتشارا فالرقعه الجغرافيه هو مرض الحمى الصفراء وهو مرض نزفي فيروسي حاد ينتقل بواسطة البعوض.

ورغم الاستعدادات التدريبه, ولكنني غفلت عن التبحر في علم الوبائيات والخاص بالاجواء الاستوائيه والرقعه الجغرافيه التي تنتمي لها سلطنة بروناي. واذ بي اتفاجئ فالاختبار الاكلينيكي★ باحدى الحالات والتي تشكي عوارض حمى لا تنخفض بالمسكنات الحراريه وكانت مصابه بالحمى الصفراء

وايضا من باب العلم بالشي؛ فالاختبار الكلينيكي★ لا يحتم على الطالب التشخيص النهائي, وانما يحتم علينا اخذ تاريخ مرضي مفصل عن المريض لنتوصل لاقرب نقطه تشخيصيه للمرض وهذا ما يسمى بالتشخيص المبدئ ثم علاجه او تحويل المريض للمختصين بناءا على التشخيص المبدئ.

وعوده للعم ابو فهد

فقد كانت تسبق زيارته لي في تلك الليله زيارات للمجمع بنفس الشكوى مع اطباء اخرين. وكانت شكواه المتكرره هي حمى لا تنخفض بالمسكنات الحراريه! فاسترجعت هنا التدريبات المكثفه التي تعلمتها عن التاريخ المرضي. وكان يومها العم ابو فهد اقل حدة فالحديث نوعا ما وكان متجاوب فالرد على اسئلتي بعكس المعتاد!

وكان التحدي الذي يتملكني هو عدم وجود اي فحوصات ونتائج سابقه للعم ابو فهد وكان المختبر قد اغلق شُباكه للفحوصات المبدئيه. وبعد توسل للعم ابو فهد اقتنع ان يتم تحويله للطوارئ التابعه للمستشفى المرجعي.

وبدأت حكايته لاحقًا مع قسم الوبائيات ودراسة الرقعه الجغرافية والتي تبين تسجيله كأولى الحالات التي كشفت عن انتشار بعوضة الزاعجه المصريه★ والمتسببه في المرض النزفي الفيروسي (حمى الضنك) وهو مرض مشابه فالاعراض والعلاج ب (الحمى الصفراء).

وهنا كان التاريخ المرضي التفصيلي الذي اخذته للعم ابو فهد؛ هو إحدى المستندات البحثيه التي استخدمها قسم الوبائيات في وزارة الصحه لتحديد التشخيص بحمى الضنك . واحدى هذه المعلومات هي ذكري في رساله التحويل للمستشفى المرجعي انه صرح بلدغه حشره من ايام وان به طفح جلدي بسيط!

لم اكن اعلم بهذه التفاصيل بحكم عملي فالفتره المسائيه؛ ولكنني حين باشرت العمل الصباحي أتتني إحدى الزميلات التي ذكرت لي اعجاب قسم الوبائيات بالسرد التفصيلي للتاريخ المرضي وأن العم ابو فهد وبحكم انه خضع للتنويم فالمستشفى لمده خمس ايام للسيطره على النزيف الداخلي الذي صاحب المرض؛ فقد كان كل ما رأي اي طبيب لا يذكر الا اسم الدكتوره ريم والتي بدونها كان سيحسب في عداد الاموات!

التقيت به بالمصادفه بعد اشهر في المركز الصحي وانا اسير متوجهةً الى احدى غرف العلاج وقد القيت عليه بابتسامه السلام سريعا.

واذا به يفاجئني بالوقوف من جلوسه ليلقي علي … التحيه العسكريه!

ويقول: “انا لو ما انت كان متت”

فأجبته والسعاده تغمرني: لولا الله ثم الاسباب لما كنا الصدر الرحب والضميرالمسؤؤل والمحب لخدمتك والاخلاص في خدمة هذا المجتمع الطيب.

واكملت المسير وانا انسج الكلمات في مخيلتي و التي تُحَفزني على الاستمرار في المسير قدمًا لأداء واجبي وخدمة مجتمعي بضمير وبصدر رحب متسلحه بعلمي وتجاربي ورضا وتوفيق الله عز وجل.

دمتم برضا وحب

★حكايات من الواقع : هي حكايات للدكتورة العمانية ريم الحشار كتبتها بحب و اخرجت بها سلسلة قصصيه من الذكريات المفرحه والمؤلمه شملت بعضا من ذكرياتها المهنيه خلال سنوات عملها كطبيبه في المجال الصحي.

★الاختبار الكلينيكي : الاختبارات السريريه

★مرض مزمن: حاله او اصابه مرضيه تستمر لاكثر من ثلاثة اشهر

★سلطنة بروناي : دولة تقع على الساحل الشمالي لجزيرة بورنيو في جنوب شرق آسيا.

★الزاعجه المصريه: نوع من البعوضيات من جنس الزاعجة تنقل فيروسات الحمى الصفراء وحمى الضنك.

#اليوم_ العالمي _لسلامة_المرضى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى