الوصف في قصة: “البيت المهجور”، المنشورة ضمن المجموعة القصصية” مرايا”

قراءة – لحسن أيت بها :
هي مجموعة قصصية متفردة، لغتها انسيابية كالماء، تفاصيلها مذهلة، وأنت تقرأ تحس بثقل التجربة، وعمق الدلالة، وجمال الفكرة، يحملك الكتاب من قصة إلى قصة، مرايا شفافة تعكس طيبة صاحبها وشفافيته وجمال لغته الآسرة، تلك اللغة البسيطة القوية، تجعلك تحس أن الكاتب ممسك باللحظة، وأنه دونها عدة مرات في مسوداته، يعبر الزمن بخفة، ويعبر مستحضرا أخص الأشياء لديه، فمثلا هذا الإحساس، في علاقته بكلبه الوفي، ينقله، في عدة صور ويصفه إلى جانب الأحداث والمواقف والمشاعر، ينتقل بخفة من الذكرى إلى الحاضر، يستشرف منه مستقبله، وزمنه.
تأتي المجموعة القصصية “مرايا”، للقاص المغربي سعيد رضواني، وهي من منشورات الراصد الوطني للقراءة الطبعة الثالثة، لتكشف عن نصوص قصصية للكاتب، بعناوين مختلفة، مع مقدمة للقاص المغربي أحمد بوزفور، تبدأ بقصة مرايا الأحلام لتنتهي بقصة البيت المهجور، هذه الأخيرة سأحاول الكشف عن دلالات تقنية الوصف فيها، والمؤثرات النفسية، التي شكلت شخصية المتكلم التي أبدع الكاتب في التعبير عنه، مع الإشارة إلى جمالية اللغة وروعتها، وقدرة الكاتب على تطويعها لتدل على ما يرمي إليه من خلالها.
دلالات العنوان: مرايا: مرآة، جمع مرايا، مَرَاءٍ، مايرى فيه الناظر نفسه، صورة المرآة ، صورة تنعكس فيشاهد من خلالها الشخص نفسه، أو مشاهدة صورة الأشياء، أو ما ننظر فيه فنرى أنفسنا.
البيت المهجور: يقصد بالبيت الغرفة المسقفة التي لها دهليز، وهو من أسماء الكعبة، ويطلق أيضا على الكلام الموزون “الشعر”، العجز والصدر. وقد يكون شطرا واحدا، وفعله بات، بات في الطريق أدركه الليل فيه، وبيت الرجل امرأته، بات على سريره أي أظله بيته، الجمع أبيات وبيوت وبيوتات، ولها دلالات السكينة والراحة، أما المهجور، فتعني أن هذا البيت هجره أهله فتركوه، أي أنه خالٍ من الناس، ومعناه بيت غير مسكون.
مضمون القصة، والضمير المهيمن:
يستخدم القاص سعيد رضواني في هذه القصة ضمير المتكلم، لينقل أحاسيسه ومشاعره، الدفينة، عبرة سلسلة زمنية يقص فيها سيرة الإنسان الطبيعية منذ أن كان طفلا، ونظرته للحياة داخل البيت القديم، وصداقته مع كل الحيوانات التي توجد في البيت، حتى يصبح شابا ثم نظرته للبيت والحوش والخابية، ولمسه للعجل والكلب، إلخ، مع تحوله إلى فترة الشيخوخة، ويصبح العكاز الذي يلعب به صغيرا، صديقه في هرمه، وفي ضعفه، يتوكأ عليه، ويعتمد عليه.
الوصف :
في علاقة هذه القصة بالمرآة، ستكون المرآة هنا هي انعكاس صورته في صفحة الماء على الخابية، ليصف ذاته وشكله في لغة حميلة متناسقة فيقول: ” أفتح باب الحوش… أرفع غطاء الخابية المثقل بالرطوبة، فتطالعني صورتي المائية وهالة ضوء من العمق، أروي ظمئي بالماء، وأروي فرحي بوجودي بتأمل صورتي التي تتأملني ، أصرخ داخل الخابية، فيرتد الصراخ قويا بعد أن تتكسر صورتي في الماء”، رؤية في أعماق الأشياء والتفاصيل البسيطة، ونظرة إلى الذات، التي تنشد الغبطة والفرح، بالوجود، تأمل صورته فوق صفحة الماء، الصرخة التي تعكر الماء، فتنحل صورته وتتكسر فوق الماء، وتنكشف ظلمة الخابية.
يصف أيضا النمل وهي تتقلب في مساكنها، فيقول: ” أبعث نحو الأسفل بإبتسامة إلى نملة تنوء بحمل حبة قمح، وتسير بها مع قطار النمل نحو ثقب بالجدار”، الغوص في تفاصيل تتعلق بنمل يسكن بيته، وتتخذ من فجاجه وأجرافه أزقة ومنازل، يتقاسم معه السكن.
ويتجلى الوصف أيضا في وصفه للأحاسيس الإنسانية إذ يقول: ” أخرج سيجارتين من العلبة ، أضع واحدة فوق المائدة وأشعل الأخرى ومعها أشعل نار الحيرة، نار التوجس ، نار الندم”، رصد لبعض مشاعر الندم والحيرة، والأسى على تتابع الزمن وظهور علامات الشيخوخة والنسيان، وفقدان الأمل.
ويقول في الوصف أيضا: “صخور ثقيلة تجثم داخل صدري أثقل من أن يحمله الدخان، أمد يدي لأحمل السيجارة الأخرى، ….” ، يصف العمر وفترة الشيخوخة ومشاعره الجياشة، وكل أحاسيسه المتناقضة في هذه الحال فيقول معانقا عصاه:” أحمل عكازا معقوفا، يجسد عمره القصير، عمري الطويل، وكأن هذا العمر لا يمثله إلا عكاز معقوف، ولم يقو على مزيد من الامتداد فانقلب على نفسه متراجعا معوجا، فأحمله باليد المرتعشة، وأمضي مخلفا على الأرض ببلغتي آثارا تشي بتعثر الجسد الواهن.”.
تتزين هذه القصة بلغة جميلة جذابة، يحكي فيها الكاتب قصته بمهارة وتشويق يتداخل الذاتي بالنفسي، بلغة عربية سليمة ومتميزة.
المؤثرات النفسية:
يعبر عنها الكاتب من خلال رصده لمشاعر الذات التي طغت على معظم بناء هذه القصة، لينتقل إلى المكان فيرصد نفسيته فيه وتراه يعبر عن كل الحيوانات التي تعيش في البيت المهجور، في حوشه، إلى جانب كلابه، كما نلاحظ طغيان فعل “أرنو” أي أنه نظر إلى الشيء أدام النظر فيه ، فيقول: ” أفتح باب الحوش، يحتك خشبة المهترئ بالأرض فيحدث صريرا أعلم أنه قوي لكن الأذن الكليلة لا تسمعه، أرنو طويلا إلى مكان النمل…. طويلا أرنو إلى عش طيني بالأعلى، لكن بالكاد أراه…، طويلا أرنو إلى الزريبة الخالية… طويلا أرنو إلى الجدران الندية. .. طويلا أرنو إلى السلسلة التي تحن إلى أعناق للكلاب، طويلا أرنو إلى عش عنكبوت في منتصف الخابية، يمتعني عن رؤية العمق، كما يمنعني الآن عن رؤية نفسي، في لحظات أخرى، في أزمنة أخرى، نسيج من الأحداث الكثيفة، التي حاكها، حولي بلا رحمة، عنكبوت الزمن،” ، نظرة إلى الأشياء من منظور شيخ كبير جرَّب الحياة، وخبرها، فرآى الأشياء كلها تحاك ضده، يرصد نفسيته المقهورة وشعوره إزاء المنزل القديم ومكوناته، بعد أن كان زهرة ذكرياته ومطمع طفولته.
يصف الكاتب تلك اللمة من الحيوانات التي تتواجد في هذا البيت العزيز على النفس فيقول:” أحملها باليد الناعمة وألوح بها في الفضاء، مهددا الحمائم والغربان، أهش بها على البط والدجاج والديوك.” ويقول في وصف آخر:” أبعث بنظرة فضول إلى أفراخ السنونو الصفراء الصغيرة، التي تطل من العش الطيني،” ويقول أيضا: ” أدغدغ رقبة العجل الأحمر الممدود نحوي، ثم أتجه نحو الجرو الصغير، فأحرره من السلسلة، …”.
ساد ضمير المتكلم فصول القصة إذن، ومزج القاص المغريي سعيد رضواني ببراعة فائقة وأسلوب ساحر عوالم نفسية ذاتية إنسانية وجودية، ليربط الذكرى بالحاضر، ويعبر عن أحاسيس تربط البشر بأمكنتهم القديمة وحيواناتهم وكلابهم، وهواجسهم، والطبيعة التي ولد وبعث منها الإنسان، وخلقت له لتعبر عنه ولترفه عن روحه، والأزمنة المتقلبة والمشاعر المتقبلة عبر الزمن وفي أوانها، والأفكار والمشاعر المتدفقة.
المرجع: مرايا، سعيد رضواني، منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة، الطبعة الثالثة، 2020. طنجة، الصفحات: من 93 إلى 96.