“النبي” كتاب ملهم للكاثوليك باع 50 مليون نسخة لجبران شاعر المهجر في قرن

من الشعر التعويضي المداوي للمهجرين إلى فلسفة روحانية شرقية قدسها المغربين والشوام واعتبروه جامع الحكم الدينية

 

الآن

جريدة النهار اللبنانية – 19 كانون الثاني يناير 2023
كتاب “النبي” لجبران في مئويته الأولى 1923-2023
بقلم كمال ديب كندا

أهمية كتاب “النبي” في أميركا
إذا كان الشاعر الانكليزي وليم شكسبير هو الأكثر مبيعًا في تاريخ البشرية، يليه الفيلسوف الصيني لاوتسو، فجبران خليل جبران الذي كسب شهرته بفضل كتابه الصغير “النبي” سيأتي حتماً في صفوف هؤلاء الكبار.
فمنذ صدوره عام 1923، باع كتاب النبي عشَرة ملايين نسخة في الولايات المتحدة فقط باللغة الانكليزية. وباع أكثر من أربعين مليون نسخة بلغات مختلفة. وهناك مدارس باسم جِبران في أميركا ومنها في بروكلين ويونكرز. ويقُرأ الكتاب في مناسبات العزاء والفرح في أميركا مرات لا حصر لها، كما تستخدم فقرات منه في مقالات الصحف والمجلات والكتب، ويُستعمل في تدريب معلمي المدارس ومعلّماتها، ويلفظ بعضها القضاة عندما يتلون الأحكام، كما يقرأ الأميركيون فقرات من كتاب النبي لإزالة القلق والوصل إلى الراحة النفسية. وحتى أنّ جملاً من النبي تظهر من حين لآخر في الإعلانات التجارية تبيع بضائع وخدمات شتى.

انتشر كتاب النبي لجبران بقوة منذ اللحظة الأولى لصدوره. فباع طبعته الأولى خلال اسابيع قليلة عام 1923 وكانت هذه البداية فعلاً، حتى لم يعد أحد يعرف كم من مئات المرات أعيد طبع الكتاب في أميركا وحدها. وحتى في سنوات الانهيار الاقتصادي في أميركا عام 1929 وفي الثلاثينات استمرّ بيع الكتاب قويًّا، ووصل حجم المبيعات من طبعته الفاخرة إلى خمسة آلاف نسخة كل أسبوع في الستينات. فقد كان “النبي” هو الكتاب المقدّس لجيل ذلك العقد الثوري. كما أنّ المبيعات فيما بعد وحتى اليوم لم تتراجع.
والمفارقة أنّ دار “ألفرد كنوف Alfred Knopf” التي نشرته عام 1923 لم تقم باي حملة ترويجية أو دعائية له، بل كان المبيع خلال مائة عام يستند إلى ما يتناقله القراء من محبّي جبران. بل أنّ صاحب الدار “ألفرد كنوف” الذي جنى ثروات طائلة من إعادة طبعه مرارًا وتكرارًا، لم يعرف ما سبب هذا الاقبال الهائل في مقابلة معه عام 1965. ولم يسقط كتاب النبي من الشعبية، فكان الكتاب المفضل للهيبيّين في الستينيّات، ولجماعات “النيو آيج” New Age في الثمانينات وحتى اليوم.

كتاب “النبي” ثورة في الدين
يُعتبر كتاب النبي دينيًّا في مكتبات أميركا وأوروبا لأنّ جبران استقى مضمونه من قراءاته للبوذيّة وللقرآن وللانجيل بالعربية (المطبعة الكاثوليكية في بيروت)، وبالانكليزية (في طبعة الملك جيمس)، وخاصة عظة المسيح على الجبل. ومن كل هذا ومع توابل فلسفية أوروبية أبرزها “هكذا تكلم زرادشت” لفردريش نيتشه، خرج جبران بنصٍّ طازج يحاكي أجيال القرن العشرين بلغة عصرهم، بعيدًا عن سلطة الكنيسة والمؤسسات الدينية. فهيكلية كتاب النبي تُقرأ وكأنّها نص مقدّس، ولذلك فهو يُصنّف ككتاب ديني، ويوضع في قسم الديانات في مكتبات أميركا وكندا وأوروبا. وهو في هيكليته ومضمونه ولغته يشبه الإنجيل وأسفار العهد القديم. فيه النثر والأمثلة عملاً بأسلوب المسيح في الانجيل، ومليء بالتصويرات المعبّرة. فِقْراتُه تبدأ هكذا: “الحق أقول لكم” أو “يقولون كذا… ولكنّي أقول لكم”، . الخ. بأسلوب فيه من سلطان الكلام ونهائيته، وكأنّ المسيح هو الذي يتكلم.
في البداية، طُبِعَ معظم مؤلفات جبران بنفحة مسيحية ولكن أيضًا بروحانية شرقية، آسيوية المصدر، لا غربية جَرّاء قراءاته الكثيرة في الديانات الشرقية كالبوذيّة والهندوسيّة وغيرها. أما روحانيته المسيحية فكانت غير تقليدية، انبثقت من روحه المتمردّة ضد رجال الدين والتزمّت والتعصب وممارسات الكنائس في لبنان وسورية في تلك الفترة. ورغم أنّ أدبه كان كلاسيكيًّا لكنَّ تجديده كان في المضمون الفكري عن الحياة وفي استعماله لمفردات روحية في جملته. فقد كان جبران عالمياً وانسانياً في أدبه وتفكيره ولم يكن متعصّباً ولا طائفياً. وكان يشعر بالوحشة والوحدة في بيئته المباشرة. ولقد كشف الكاتب الإيطالي فرنشيسكو مديتشي بمناسبة المئوية الأولى لنشر كتاب “النبي” عن رسالة لبرباره يونغ التي وضعت سيرة جبران بالانكليزية This Man from Lebanon والتي تؤكد عزلة جبران، وكانت يونغ قد أرسلتها إلى الناشر ألفرد كنوف وجاء فيها:
“ماريانا شقيقة جبران هي أروع شخص وعزيزة، ولكنها غير متطورة وساذجة تمامًا، وكما علمتُ خلال السنوات الأخيرة ، فإن قدرة اللبنانيين على الإطراء والوصول إلى هدفهم من خلال وسائل إقناع غريبة عجيبة – فأنا متأكدة من أنّ ماريانا كانت تحت رحمة هذه الطريقة في استخدام “التعبيرات الجميلة” عن التكريس والخدمة. إذ خلال عدة زيارات إلى ماريانا بعد وقت قصير من وفاة خليل جبران – وفي غضون عام أو عامين – علمتُ أنّه ليس لديهم أي فكرة عما أكتب. فهم أي عائلته لم يقرأوا أعمال جبران، ولم يعرفوا كتبه وأي من بينها هو غلاف “النبي” أو في الواقع أي من كتبه. قالت لي ماريانا: “نعلمُ أنه رجل عظيم لكننا لا نفهمه”. كما أنها لا تفهم أي شيء مما تعنيه كل أعماله، باستثناء أنّ ما ستقوله لي عنه سيتحول إلى كلمات مطبوعة في كتابي. أهله عاطفيون للغاية وهي طفولية تمامًا ، تفعل ما يأمرها به شخص تثق به. وهي لا تقرأ ولا تكتب اللغة الإنجليزية. والسيدان عسّاف جرجي ونقولا جبران، أبنا عمومتها، هما على ما أعتقد مستشاراها، كما كانوا بعد وفاة جبران” (من رسالة باربره يونغ إلى ألفريد أ.كنوبف ، 13 نوفمبر 1947).

مراحل تأليف كتاب “النبي”
كتاب النبي هو أكثر مؤلفات جبران شهرة، في لبنان والعالم العربي وفي الولايات المتحدة وأنحاء العالم. هو ليس رواية وليس دراسة، بل مجموعة نصوص قصيرة تحاكي لغة الانجيل، كلّ نص من بضعِ صفحات، ومجموعها 26 نصًّا. ومثل كتاب سيدرتا الصغير، أصبح كتاب النبي الصغير، مشهورًا في أوساط الشباب في أميركا وبريطانيا وفرنسا. ومنذ ذلك الوقت لم تتراجع شهرة كتاب جبران، وما زالت سائر المكتبات تبيعه وتعرضه؛ وتُرجم إلى أكثر من أربعين لغة. كما صدر ألبوم صوتي هو قراءة النبي بصوت الممثل العالمي ريتشارد هاريس، مرفقة بموسيقى شرقية وضعها التركي عارف مارديني، وصدرت ألبومًا عن شركة أتلانتيك عام 1974. حتى الرئيس الأميركي جون كنيدي كان معجبًا بجبران، ففي خطاب القسم عام 1961، قال كنيدي دون أن يذكر أنّه يقتبس من جبران: “هل أنت سياسي يسأل ماذا تُقَدّمُ البلاد له؟ أو متحمّس تسأل ماذا تقدر أن تفعل لبلدك؟ إذا كنت من الصنف الأول فإنّك جرثومة تمتصّ خيرات البلد. وإذا كنت من الصنف الثاني فأنت واحة في صحراء. فلا تسأل ماذا قدّم وطني لي بل اسأل ماذا يمكن أن أقدّمه لوطني”.
في العام 1903، في العشرين من عمره ، أخذ جبران يتعمّق في قراءاته ويحدّد في مُخَيِّلته أفكارًا عاشت وعمل على صياغتها في السنين المقبلة، وكانت هي نواة كتاب النبي. إذ استغرق مشروع كتابة النبي عشرين عامًا كان خلالها يفكّر في عدّة نصوص هي خلاصة استنتاجاته عن الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة والشعراء. تبلورت أفكار كتاب النبي منذ العام 2011 ولكنّ جبران لم يُنجزه وليس من المؤكد متى قرّر جبران عنواناً له قبل 1915، فهو بدّل العنوان أربع مرّات، ثم شرع في وضع النص النهائي في العام 1918 وأنجزه عام 1922، ليظهر عن واحدةٍ من كبريات دور النشر الأميركية، Alfred Knopf. وأَتبعه جبران بكتاب مشابه هو حديقة النبي، وكان في صدد العمل على كتاب ثالث بالصيغة والمضمون نَفسيْهما قبل وفاته عام 1931.
والنبي في الكتاب هو “المصطفى المختار”. يتهَيَّأُ هذا النبي لمغادرة مدينة أورفليس (وهي تسمية موارِبة لنيويورك حيث أقام جبران معظم حياته) ليعود إلى بلاده الشرقية (إلى لبنان الذي وُلد فيه جبران). هذا الزاهد الذي يهمّ بمغادرة أورفليس، أحبَّ أهلها فتألم لفراقهم على الرغم من شدة لهفته إلى مسقط رأسه. ولما تجمع الناس لوداعه طلبوا منه أن يزودهم بتعاليمه ونصائحه حول الحياة وأحوال الانسان. وهكذا تبدأ فصول الكتاب القصيرة، يتعاطى كل منها في موضوع مختلف.
تبدأ “المِطْرَة”، وهي أول امرأة آمنت به، بسؤاله عن الحبّ. ليجيب أنّ الحب هو أساس الحياة ومقرّب بين البشر، وكما أنه يسبّب السعادة كذلك يسبّب القلق والعذاب. وحديثه عن الحب حمله على التحدث عن الزواج المثالي القائم على المحبة والمساواة، وعن الأولاد والعطاء والألم والخير والشر والموت. وتتعاقب النصوص بعناوين مختلفة منها: المصطفى، المطرة، الزواج، الأبناء، العطاء، اللذة، الجمال، الحزن والفرح، الألم، الصداقة، الزمان، الدين، البيع والشراء، الخير والشر، الحرية، القانون، الجريمة والعقاب، الموت، الوداع.
ظهر كتاب النبي باللغة العربية في عشر ترجمات لأدباء كميخائيل نعيمة ويوسف الخال وثروت عكاشة، وكانت آخر ترجمة عام 2007 هي للشاعر العراقي بولس سركون. كتب جبران عام 1919: “وكأنني كنتُ أفكّر في وضع هذا الكتاب لمدّة ألف عام، ولكني حتى العام الماضي لم أدوّن صفحة واحدة منه على الورق. هذا الكتاب يمثّل ولادتي الثانية.. كل كياني وضعته في كتاب النبي”. وفي عام 1931، قبل وفاته بفترة، كتب جبران: “شغل هذا الكتاب الصغير كل حياتي. كنتُ أريد أن أتأكد بشكل مطلق، من أن كلَّ كلمة كانت حقًّا أفضل ما أستطيع تقديمه”.

– منقول من النهار اللبنانية لكمال ديب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى