التصور الإسلامي والثقافة
بقلم : عثمان الأهدل …
لقد أنزل الله شريعته إلى البشرية لتكون له الحاكمية في الأرض، وأول ما جاء في شرائعه كان ترسيخاً لمعنى ألوهيته وحده لا شريك له في عبادته، وأن كل ما يأتي من عنده واجب الاعتقاد به اعتقاداً كاملاً دون تردد أو تشكك، وواجب اعتباره نبراساً يُهتدى به في شتى شؤون حياتنا ويُطبَّق في جميع مناحيها، فخالق الكون لا يعجزه أن يجعل عباده مؤمنين به قاطبةً، ولكنه خلق الإنسان وجعله في الأرض خليفة للقيام بحق العبودية والاستسلام لله رب العالمين، وقد أرسل كافة أنبيائه عليهم السلام برسالة واحدة، رسالة التوحيد، إذ قال عز وجل ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
وقد أخذ الفكر الفلسفي الغربي مؤخراً حيزاً ليس بالهين في مجتمعاتنا، ما جعل البعض يفقد جزءا من هويته الإسلامية.
وربما كانت حكمة الله أن بعث رسالته المحمدية الخاتمة بعيداً عن جبروت وطغيان الغرب، أرض الاستعباد والتجهيل، لتكون في مكة المكرمة التي لم تتلبسها العبودية المطلقة والمجون الذي وصل أوجّه في أوروبا.
فكانت لها المساحة الكافية لتبني منعتها بنفوس العرب، التي كانت تتميز عن غيرها بالإباء والشموخ وعدم الرضا بالذل والهوان.
وثمّة بُعدٍ آخر في جعْل الله رسالته تتنزل بمكة المكرمة، فقد أراد الله أن تكون كعبته هي قبلة البشرية التي رفع قواعدها أنبياء الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فضلاً عن أن رسالة الله تحمل بين ثناياها الإعجاز اللغوي الذي تحدى به أقحاح اللغة العربية في قريش، إعجازاً لم يكن ليُترجم إلا بأصل اللغات ومنبعها، كما ذكر ذلك علماء الأثار الذين توصلوا بأبحاثهم، إلى أن اللغة العربية هي أساس ومنبع اللغات الحية جمعاء.
ولكن بعد أن بدأنا نتخلى عن ثوابتنا الإسلامية وضعف تمسكنا بحبل الله، تسلط أهل الغرب علينا، واقتحموا ثقافتنا وأرضنا وقيمنا، يدلهم على عورات الأمة شرذمةٌ خطف أبصارَهم بريقُ الغرب، وسولوا لنا التخلي عن عقيدتنا وثوابتنا لنحذو حذو الغرب في الثورة على الدين بزعم أنه سبيل التقدم كذبًا وافتراءً على الله.
وفي هذا السياق فإن المسلم لا يملك أن يتلقى في أمر يختص بحقائق العقيدة، أو التصور العام للوجود، أو يختص بالعبادة، أو يختص بالخلق والسلوك، والقيم والموازين، أو يختص بالمبادئ والأصول في النظام السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو يختص بتفسير بواعث النشاط الإنساني وبحركة التاريخ الإنساني، إلاّ من ذلك المصدر الرباني، ولا يتلقى في هذا كله إلاّ عن مسلم يثق في دينه وتقواه، ومزاولته لعقيدته في واقع الحياة.
وما الحرب الشعواء على الدين الإسلامي منذ بزوغ فجره، إلاّ لأنه يرفع من كرامة الإنسان، ويحرره من العبودية، ويرفع عنه غطاء الجهل الذي ألبسه إياه الطغاة والمستبدون لجعله مِلك أيمانهم.
وهنا جاءت هجرة المستشرقين إلى جزيرة العرب والقيام بدورهم المشؤوم في النيل من الإسلام، حيث انخرطوا بين علمائها، وارتدوا لباسهم، وأتقنوا لغتهم، حتى أصبح من الصعوبة بمكان تمييزهم عن علماء الإسلام، وفي اعتقادي أن ما خفي أعظم، ولن يُرفع عنهم حجاب التخفي، إلاَّ بعد أن تصحو الأمة من غفلتها ويزول عنها الجهل الذي ران عليها.
وأسهم في ذلك الانحراف الفكري بعض المنتسبين زوراً إلى العلم، حيث جعلوا الدين مطيتهم للتكسب والاسترزاق، فقلبوا الحق باطلاً واجتهدوا في تأطير التصور الإسلامي في حدود الفكر البشري القاصر، وتعاملوا مع نصوصه كأهداف تخدم غايات الاستبداد، غاضين الطرف عن البعد الرباني فيه، المرشد للغايات السامية.
والاسلام كمنهج جاء لإسعاد البشرية، وإسعادها لا يعني طمس فكرها البشري في أمور دنياها أو التفقه في الأمور التي تسهل لهم حياتهم اليومية، ولكن اقتصر في فهم الوجود الإلهي وطبيعة البشر واحتياجهم الذي يتعدى حدود العقل ويصل إلى حد الغيبيات على الوحي كمصدر للتلقي.
كما أعطى الإسلام المساحة الكافية في الاستقاء من الحضارات الأخرى التي تعني بالعلوم الدنيوية، لتمكن المسلمين في الأرض حتى وإن كانت من غيرهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، فأفسح الطريق أمامنا للاستفادة من الآخرين بما لا يتعارض مع الشرع المُنزل حتى تستعد الأمة للتحديات التي تواجهها من المتربصين بها. إذ قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال 60]
وهنا جاءت الحاجة ماسة للمسلمين لمجاراة الشعوب الأخرى التي يعتقد أنها آخذةٌ بزمام التقدم في الحضارة المادية، وقد حثنا الله أن نسعى ونبحث في أرضه، كما في قوله {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك 15]، وترك المساحة الإنسانية في إبراز شخصيتها وثقافتها التي لها في الأساس رصيد من الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وما تشريعاته التي بعثها إلى الشعوب مع أنبيائه الكرام، إلا لإرجاعها لطبيعتها التي يجب أن تكون عليها، وما يصدر من حسنٍ إنساني لا ينافي التشريع الرباني هو في الأساس جاء من عند الله، فهو خالق الكون وما عليه من الخلائق.
والشيء بالشيء يذكر، فمما يُروى من طرائف القصص، أن سوق السقائين كسدت في بعض البلدان العربية بعدما مُدت شبكات المياه والصنابير، فلجأوا إلى بعض المفتين وأقنعوهم بأن الشبكات والصنابير فيها أضرار ومشكلات تتعلق بالطهارة، فأصدروا فتاواهم بتحريم الوضوء والاغتسال من الصنبور، لكن فقهاء الأحناف أجازوه ولذا أطلق الناس على الصنبور لفظ “الحنفية”، نسبة للأحناف، وهي قصة تجسد لنا حال الكثيرين في تقبل أو رفض الفكرة الجديدة، ما بين رافض لكل ما هو مستحدث حتى وإن لم يأت مانع شرعي يحظره، وبين صاحب فكر منفتح فقيه بالمصالح يسعى للتيسير على الناس بما لا يعارض الشرع.