ثعبان مسلوق للغداء!

بقلم/شعبان منير

 

عربي مبتعث.. أدرس الأدب الشعبي الصيني في جامعة “بيجينج”، حضرت إلى الصين منذ أسبوعين.. أظنّها ليست بالمدة الطويلة التي تتيح لي كتابة مذكرات عن هذا البلد..

أخبرني صديقي “فوّاز” بأن الصين عبارة عن قارة.. لم يُزِدْ معلوماتي بالطبع.. لكنها معلومة ليست جديدة، بل توكيدية!

تمامًا كمُحَسّن بلاغي “غبي”! عندما كنا ندرس بالمتوسط.. كان المعلم يحفِّظنا هذه الجملة عن المُحَسّن البلاغي: ” تضاد يبرز المعني، ويوضّحه ويقوّيه”!

عمومًا في اليوم الأول وجدت حفاوة منقطعة النظير هنا.. الوُدّ، والترحاب.. والتحية تقابلك من الجميع..

شعب محترم جِدًّا، ومحبّ للعمل.. ولكن الزحام شديد.. الشارع لا يخلو من الناس ليلًا، أو نهارًا..

أتحدث إلى أيّ صيني يقابلني بالإنجليزية!

ولكن لا أعرف إلى الآن كيف سأقدم أطروحة عن الأدب الشعبي الصيني، وأنا عاجز عن الحديث بالصينية!

أزعم أني سألتحق بدورة تقدّمها الجامعة الصينية للباحثين المغتربين!

عزفت عن أيِّ طعام صيني؛ لأني حتى الآن لا أعرف مصدره.. هذه عادة سخيفة عندي.. لا بُدّ لي من أن أسأل عن مصدر الطعام.. ربما هذا نوع من الوسوسة..لا أدري!

آكل منذ أسبوعين أطعمةً مغلّفَةً.. أو مخبوزاتٍ مصنوعةً من القمح، أو الذرة.. الصحة تاج!

أكتفي باللبن البارد، أو الفواكه الطبيعية.. الثمار الطازجة منعشة.. وصحية.

وضع لي صديقي برنامجًا للزيارة.. له هنا سنتان…. فهو يدرس الهندسة الميكانيكية.. وصناعة السيارات..

يذهب إلى الأهل في شهر واحد فقط، ثم يعود ليشغل نفسه بالتدريبات العملية.. في المصانع.. وعقد الاجتماعات، وحضور “سيمينار” الكلية الهندسية التي يدرس بها  إنه يحضِّرُ رسالة في “الصناعات المُغَذّية للسّيارات”..

أنا خالي الذهن عن الصين كدولة!

فَوِجْهة نظري تتلّخص في أن أترك نفسي للظروف..  التعلم بالاسكتشاف هو الاستراتيجية التربوية التي آمنت بها منذ دخلت التعليم الثانوي في بلدي” السعودية”.

معي “التابلت” لا يفارقني.. ورغم أني بضغطة واحدة أستطيع استفراغ “جوجل” ما في جوفه من معلومات عن الصين، فإني لم أفعل!

لست ممَّن يحصلون على المعلومة بسهولة.. الكدّ، والتعب يثيران شغفي للحصول على الفكرة..

في بيتنا مكتبة عامرة بالكتب من كلّ صنف.. تتخطى خمسة آلاف كتاب.. أبي دكتور طب. ولا يكتفي بكتب الطب بالإنجليزية، أو العربية.. لدينا كتب عن العقيدة والمذاهب، والأخلاق.. وروايات عربية وأجنبية… مسرحيات لشكسبير، وجورج برنارد شو..وجورج أورويل، وكتب الفلسفة لشوبنهاور، وكتب عن القانون.. فطبيعيٌّ أن أعرف سبينوزا.. وجان جاك روسو.. وبوشكين، وتولستوي..

لما وجد أبي نفسه يغوص بين الكتب، ولا يعلم كيفية ترتيب هذا العدد الضخم.. هاتَفَ إحدى شركات البرمجة.. فحضربعض الموظفين، وقاموا بترتيب الكتب.. وإعداد برنامج “المكتبة” الذي يشمل تبويبًا شاملًا، ووافيًا. ودفع في هذا البرنامج عشرة آلاف ريال..

مبلغ ضخم.. أعرف.. لكننا بضغطة واحدة نعرف الكتاب الذي نريده.. وعلى أيّ رفٍّ.. وفي أيِّ قسم..

التكنولوجيا ممتازة!

دخلت قسم الأدب والعلوم الإنسانية بالجامعة.. حصلت على الليسانس.. وقدمت أطروحة الماجستير.. أخذت منِّي ثلاث سنوات..

ناقشتها منذ شهرين.. وحصلت على الدرجة..

قال أبي:

– وماذا بعد؟

– لا شيءَ.. سأكمل للدكتوراه..

وازنت الأمور، واستشرتُ أساتذتي..

اقترحوا عليَّ موضوع “الأدب الشعبي الصيني”..

قالوا: بلادنا تحتاج لدعم العلاقات مع الصين.. وربَّما نلحقك ملحقًا ثقافيًّا في الصين.. يجب أن تمهر اللغة الصينية.. هذا أمرٌ مُهِمّ..

– وأنا طَوْعٌ لبلادي..

استشرت أبي، فرحَّب قائلًا:

– ما دامت بلادنا تحتاج هذه الرسالة.. فعليك أن تلبِّيَ النّداءَ..

صحيح.. اسمي “نوّاف” بالمناسبة..

أخذني “فوَّاز” لزيارة بعض المتاحف في “بيجينج” التي ينطقها عامة الناس “بيكين”!

ثم هو قد اتفق معي على زيارةٍ من نوعٍ خاصّ!

لما سألته عن وِجْهتنا.. قال إنها مفاجأة!

تركته يخطط للرحلة.. وانهمكت في مقابلة أساتذتي.. للتحضير لخطة الدراسة..

أريد الذهاب إلى أعماق الصين؛ لأطَّلِعَ على حضارتهم التي يزيد عمرها على عشرة آلاف سنة..

زرت مصر.. وبُهِرْت بما رأيت..

متاحف بها آلاف التماثيل، والقطع التي يزيد عمر بعضها عن ثلاثة آلاف عام..

مجسّمات لبيوت الفراعنة بالمتحف المصري بالتحرير..

مساجد ضخمة، وكنائس سامقة.. أهرام شاهقة الارتفاع… دخلت واحدًا منها، فصُعِقْتُ من هندسته.. وقلت في نفسي: يبدو أن مَنْ بنى هذا مجموعة من الجِنِّ ولا شكّ!

هنا في الصين أهفو إلى زيارة كلِّ شيء هنا.. كم يبهرني منظر جبال “التِّبِت”، ومدرّجات الشاي.. ومزارع الأرز!..

زرت المعابد.. فأخِذْتُ من زخرفتها، ونقوشها البديعة..

قرأت أن الصينيين يأكلون أطعمة غريبة.. شاهدت أحد الأفلام المصرية الكوميدية لمحمد هنيدي المصري.. كان هناك مشهد يتحدث عن الطعام الصيني.. شاهدت الأسرة الصينية تضع على المائدة “الصراصير”!

اعتقدتُّ أنها مبالغة..

لم أفتح اليوتيوب لأتأكَّد من هذه الأمور، فربَّما تدخّل الجرافيك، أو العامل البشري الناقم على الصين، ونهضتها في تلفيق هذه الأفلام المغرضة!

حانت اللحظة التي ستنطلق فيها السيارة إلى وِجْهةٍ كنت خالِيَ الذهن عنها، وجدت صديقي يفتح الباب.. ويقول:

– كنت قد وعدتك بزيارة استثنائية.. أليس كذلك.. هل أكلت طعام الفطور؟

وجدته سؤالًا ليس له محل..

لكني قلت له:

– لماذا تسأل؟!

– ههههه لا شيء.

– لماذا تضحك؟!

– ستعرف عندما نصل!

اعتدلت على الكرسيِّ الخلفيِّ للسيارة.. وفتحت كتابًا يتحدث عن الحضارة الصينية القديمة..

كنت قد قررت ألَّا أقرأ عن مدن الصين، وتركت لصديقي “فوّاز” مهمة الإرشاد السياحي هذه، فأنا انتهازيٌّ من ناحية وجود شخص كفوّاز..

على الأقلّ هو سيريحني من قراءة أربعة، أو خمسة كتب عن هذه الدولة.. فأمامي آلاف الصفحات التي يتوجّب عليَّ قراءتها عن الأدب الصيني.. بالإضافة لتخصُّصي الدقيق وهو: “الأدب الشعبي في العصر الوسيط في الفترة من عام 1250 ، وحتى 1500 للميلاد”.. هل تتصوَّر أن تحضِّر رسالة تستغرق دراسة 250 سنة في عمر شعب ما؟!

أنا لا أعرف عن السينما الصينية إلّا ما شاهدته من أفلام “بروس لي”، و”جاكي شان”.. ورياضة الكونغ فو، وسمعت عن مخرج صيني اسمه “فوكوياما”، لكني لم أشاهد له أفلامًا!

انطلق السائق الصيني.. وقال لنا جملة بالصيني ترجمها نوّاف قائلًا:

– يتمنى لنا رحلة طيبة.. وأردف سيعجبكم الطعام جِدًّا…..

ارتبت في الترجمة.. فربَّما يحضِّر لي “فواز” مقلبًا ما.. لن أظلمه.. عمومًا ربنا يستر…

أكره المفاجآت.. وأخبرت “فوّازًا” بهذا الأمر.. لكنه لم يُعِرْ رغبتي أدنى اهتمام!

فوَّاز به بعض العادات الطفولية.. ويبدو أنه يحبُّ المقالب!

اتجهت السيارة إلى منطقة “ووهان”… يافطة ملونة ومضيئة ترحّب بالقادمين إلى المدينة…

ضغطات من السائق على آلة التنبيه..

الزحام شديد هنا..

ننزل عند أول فندق … متوسط ذي ثلاث نجوم…

نترجّل … كنت أعلّق على كتفي “لاب توب”، ثم  أسجّل بعض المشاهدات… وأصور بكاميرا “فيديو” كثيرًا من المحال.. والمولات… وحركة الناس في الشارع..

زغدني صديقي “فواز” قائلًا:

– ها… ألست جائعًا؟

– لا … فأنا في الحقيقة غير مطمئن للأكل الصيني.. ويجب أن أتثبت أوّلًا من نوعية الطعام التي تقدّم عمومًا.

– ههههههه يبدو أنك ” موسوس” يا صاحبي!

– سبحان الله! كيف تريد مني أن آكل أيَّ طعام دون السؤال عن مصدره؟ أنا وأنت مسلمان.. والشعب الصيني متعدّد الأعراق، والأديان، والقوميات.. فلا أقلّ من أن نتأكد من نوعية الطعام المقدَّم..

– اطمئن، فلن أقدِمَ على أن أطعمك لحم الخنزير.. يعني.. إذا كان هذا ما يدور في عقلك!

– لا سمح الله… وهل أجرؤ على أن أفكر فيك بهذه الطريقة؟!

– إذًا، دعنا نسترحْ في الفندق أوّلًا، وبعدها آخذك في جولة في ووهان..

– ليكن… ولكن أرجوك… لا أريد أن أطعم أيَّ شيءٍ إلَّا بعد أن تخبرني عن مصدره..

– وبعدين يا صديقي… قلت لك اطمئنّ..

صعدنا إلى الطابق الثاني بالفندق… وفي نفسي من الجملة الأخيرة شيء: “قلت لك اطمئن”… !

بعد أن توضّأتُ وصلّيْت … كان الوقت وقت ظهر… وبحساب فرق التوقيت.. قد مرَّ على صلاة الظهر حوالي نصف ساعة.. أمّني صديقي.. وبعد أن صلينا معًا.. قال: هل تعلم يا صديقي أن “جامعة ووهان” من أقدم جامعات الصين؟ وهي جامعة من الدرجة الأولى… وكانت ضمن أربع جامعات للنخبة…ستراها.. إنها جامعة ممتازة… ومبانيها تتميز بالثراء المعماري الذي يحافظ على الطابع الصيني…

هززت رأسي معجبًا بما قاله.. وسألته:

– ولكن كيف تحوّلت الصين للشيوعية؟!

– شوف يا “نوَّاف”… سنة 1927 “ماوتسي تونغ” حول الصين لدولة شيوعية بالتعاون مع “جوسيف ستالين”- زعيم الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت- ولكن “ماو” كان عنيفًا مع معارضيه، ويستخدم أساليب دموية… ويتعامل بمنتهى القوة والحزم مع من يخالفه… ورغم ذلك معظم الشعب الصيني يحبه.. ولا يقبلون أن ينال منه أحدٌ بعد موته! وأنت ترى في الاحتفالات كيف يقدسونه… ويعلقون صوره في جميع ميادين الصين… والعلم الصيني الأحمر يحمل شعار الشيوعية..

وهناك من زعماء الشيوعية في الصين الذين حملوا شعلة الكفاح من أجل طبقة العمال… “شيانغ كاي شك”..

كان صديقي فواز يتحدث بلهجةٍ جادَّة… وأنا كنت متعبًا… وشعرت بالملل من بعض كلامه… وتثاءبت!

لما رآني أتثاءب شعر بالحرج.. وقال:

– اعذرني لو كنت قد صدَّعت رأسك…

– لا .. أبدًا، ولكني لم أنمْ منذ الخامسة صباحًا بعد أن صليت الفجر… خاصمني النوم..

– عمومًا سأتركك، وأذهب لغرفتي لإجراء بعض الاتصالات بأسرتي.. نم قليلًا.. وسأعود إليك قُبَيْلَ الثالثة، فقد أعددت لك مفاجأة!

– مفاجأة… ربنا يستر!

– ما لك أُخِذْتَ هكذا؟!… اطمئن يا صديقي… هههههه

أقلقتني تلك الضحكة التي ختم بها حديثه، وهو يغلق الباب خلفه..

حاولت نسيان الأمر… أو تناسيه… وتمدَّدت على السرير… وغططت في نوم عميق…

الساعة الثالثة تقريبًا فوجئت بمن يخبط على الباب.. خبطات متتالية… قمت متأفّفًا، فلم أنم سوي ساعة ونصف تقريبًا… نظرت في الجوال.. ثم قلت:

– طيب… أنا آتٍ!

فتحت الباب فإذا “فوّاز” في وجهي!

– مساء الورد..

– أهلًا فوَّاز… تفضَّل..

تنحَّيْت جانبًا حتى يدخل..

جلس على سريري.. وقال:

– اليوم هنا في الصين سريع.. يجب أن نستغل الوقت… يعني لازم نمرّ على المكتبة الخاصة بووهان.. وتتعرَّف على بعض الدارسين العرب…

قاطعته: حيلك … حيلك… كل هذا؟!

– بالطبع يا صديقي.. قلت لك الوقت ضيق.. هل أنت جوعان…

– ميت من الجوع… سوف أنزل المول أشتري لي بعض المخبوزات المجففة آكلها..

– مخبوزات؟! لا لا لا… هننزل مطعم الفندق…

– مطعم! أنا قلت لك لا أثق في الطعام الصيني…

– اطمئن.. سوف أطلب لك طعامًا يحتوي الخضراوات والأرز .. أظن أنه ممكن تأكل من هذا الطعام…

نظرت له محذّرًا: شوف يا صديقي… لو هناك مقلب من مقالبك.. سوف أقاطعك مدة وجودي هنا في الصين… فإياك أن تفعل شيئًا يغضبني!

– بس بس بس… لِمَ كلُّ هذا التحذير؟!… عمومًا لو ترى أن وجودي معك يضايقك، فالله الغني… سأتركك من الآن..

تحوَّلتْ دفّة الحديث للهجة ثائرة وقطّب جبينه…. وقام من على السرير متّجها للباب..

لحقت به قبل أن يخرج معتذرًا له..

قال لي حزينًا: لماذا منذ أن تعرفت عليك.. تشعرني بأني أدنى منك.. لعلمك.. أنا من عائلة غنية جِدًّا بفضل الله… وقبيلتنا تملأ المدينة… ولا يحقُّ لك بأية حال أن تنتقص منِّي بهذا الشكل… ثانيًا أنا لست مِمّن يصنعون المقالب..

– من الذي أوحى إليك بهذا الكلام؟

– أنت. عندما رأيتني أبتسم في السيارة.. وتفسر كلامي تفسيرات تحتمل أكثر من وجه!

اعتذرت له قائلًا: اعذرني.. وآسف لو حدث سوء تفاهم بيننا.. فأنا أعصابي متعبة ومرهق، فلم يسبق لي أن تركت أسرتي … كلّ سفراتنا كانت معًا… ذهبنا للحجّ معًا.. وحتى ذهابنا للتصييف في أوربا.. ومصر كان معًا… أنا أشتاق لأسرتي وإخوتي كثيرًا..

خنقتني العبْرة فبكيت!

اقترب مني، وَرَبَتَ على كتفي، وقال:

– اهدأ يا صديقي… الشيطان دخل بيننا.. لا عليك ” أنا مو زعلان منك… لو تبي أحب على راسك.. موافق”.

– لا، أبدًا… أنا متوتر فقط… فما كان لي أن أقبل بموضوع الرسالة.. ولكن من باب تحمل المسؤولية رضيت…

عمومًا.. تعال بنا إلى المطعم..

نزلنا بعد أن تصافحنا.. وكان هناك حضن أخوي… زال معه سوء التفاهم.

في المطعم:

لما نزلت أنا وهو إلى المطعم وجدنا ازدحامًا على الطاولات.. وبصعوبة وفّر لنا الجرسون الصيني طاولة كانت في وسط القاعة..

عن يميننا وجدنا أسرة صينية مكوّنة من بنت، وولد، وأب، وأم.. وجدناهم منهمكين في رغي متواصل.. لم أفهم شيئًا ممّا يقولونه.. ولكنّ الجرسون حضر إليهم، واستمع لطلباتهم… وقام بتدوينها في “تاب” يحمله بين يديه..

جاء جرسون آخر، وركع أمامنا في أدبٍ جمٍّ، وقال: أهلًا بكما.. هل أستطيع أن أدوِّنَ طلباتكما؟

التفت إليَّ صديقي، وقال: انتظر سأطلب لك..

تركته تكريمًا له، وإزالة لما في نفسه من بقايا سوء التفاهم الحادث منذ قليل..

تحدث صديقي مع الجرسون.. ودوَّنَ الرجل ما طلبه لنا نحن الاثنان..

ثم التفت إلي قائلًا..

– لقد طلبت لك بعض الأرز.. والشوربة.. وطبقًا من الطبيخ.. به بامية، وخضراوات أخرى مطبوخة على الطريقة الصينية.. وبغير بهارات.. وأمامك الملح لو أردت…

– فعلًا؟! لا أعرف كيف أشكرك.. أنت تهوِّنُ عليّ وجودي هنا..

لحظات.. ووجدت الطاولة التي بجواري على اليسار.. “أب وأم وشاب وطفلة صغيرة”.. جاء الجرسون يسحب عربة الطعام.. أوانٍ “ستانلس ستيل” مغطَّاة ويبدو أنها ساخنة..

أتي واحد آخر وحيّا ربَّ الأسرة، ثم شرع في كَشْف الأغطية…

هنا ضحك صديقي في كُمِّهِ، وبصوت منخفض.. وكاد أن ينزل تحت الطاولة حتى لا يلاحظ عليه الحضور هذا الضحك المكتوم..

بالطبيعة سألته: لماذا تضحك يا “فوَّاز”؟!

توقَّف عن الضحك قليلًا حتى يجيبني:

– أتدري ما هذا الذي في الأطباق والأواني؟!

– من أين لي أن أعرف… إنها لحوم بالتأكيد تعوم في الشوربة!..

يا عزيزي.. ما تراه أمامك عبارة عن:

” خفاش مسلوق في الشوربة- أجِنّة مسلوقة- ثعبان مسلوق”!

لما سمعت ما قال.. صممت على أن أسمع مرة أخرى، فربّما أنا أهلوس من تأثير الجوع.. أعاد علي الجملة وأنا أكاد أفرغ ما في جوفي.. رغم أني لم آكل شيئًا.. إن هو إلَّا القليل من الينسون في الصباح..

أشرت بيدي.. بعد أن فهمت واستوعبت ما قال… أأأأنا لن آكل.. أنا مو جوعان.. لا يمكن آكل…

– ششششش أخفض صوتك يا صديقي سوف تفضحنا.. الناس بدأت تلاحظ صوتك العالي!

– ماذا تريدني أن أفعل.. وهممت بالقيام.

– لا لا لا.. اصبر حتى آكل أنا، فعصافير بطني تزقزق.. أوكي.. لو أنك لا تريد الأكل.. سآخذه معي لفوق في الغرفة.. فما دمنا قد طلبنا الطعام، فسوف ندفع الفاتورة..ثم لو طالبنا بإرجاع الطعام فهذا يعدُّ عيبًا في عُرْفهم!

– يعني إيه.. آكل بالغصب يا أخي؟!

– لم أقل هذا.. خلاص.. قلت لك سآخذ الأكل معي..

جلست أغلي، وأحترق شوقًا لمغادرة المطعم المقرف.. ولكني صبرت وكأني أجلس فوق جمر مشتعل.. أتلمظ مغتاظًا… لقد كان يضحك من أجل رؤيتي لهذا الطعام العجيب لأول مرة..

بعد أن انتهى استأذن مني؛ كي يغسل يديه.. غاب قليلًا، ووجدته قد أحضر لي بعض المخبوزات.. وقطع الجاتوه.. في علب صغيرة..

خرجنا من المطعم وقد تبدَّلَتْ حالي..

قلت في نفسي: “بلا نظريات بلا حكي فاضي ” عرفت أن نظريتي عن الصين خاطئة تمامًا.. فلا بُدّ من التعرُّف على هذه القارة.. نعم إنها قارة وليست دولة..

أكلت رغم شعوري بالغضب الشديد. فقد أوشكت على الدخول في إغماءة.. جربت مرات تلك الحالة.. عندي الضغط.. أخذت حبة الضغط.. وقسته على الجهاز، فوجدته قد تعدى الحدّ المسموح.. قررت أن أرتاح قليلًا.. بعدها فتحت اللاب توب.. وشغلت “الواي فاي”.. وبحثت في “جوجل” عن الصين، وطعام الصينيين.. فوجدت مقاطع لليوتيوب.. تصوِّر ما وجدته في المطعم.. أجِنّة مسلوقة، وثعابين مسلوقة، وخنازير مشوية.. وخفافيش.. وصراصير.. وديدان.. وعناكب.. بل وجدت مقطعًا بشعًا.. فها هو أحد الصينيين قد وضع جَرْوًا صغيرًا في صينية الطبخ، وأشعل اللهب من تحته.. والجرو المسكين يحاول القفز من الصينية!

ثم قلّبتُ، فوجدت أحد الأسواق الصينية به جميع أنواع الحيوانات، كالتماسيح، والصقور، والسلاحف، والضفادع!..

نعم والله الضفادع التي كنا نقوم بتشريحها في المعمل في الثانوي.. يأكلونها هنا..

من يومها قررت أن أحضر الطعام من “المول”، وأقوم بطبخه بنفسي..

شعب غريب فعلًا أكل كلَّ ما يطير في الهواء.. وما يمشي، أو يزحف على الأرض!..

لا أزال أعيش على الطعام الجاف، والمخبوزات.. جلبت منها قبل أيام كميات كبيرة جدًّا.. أحسب أني قد أصبت بالأنيميا..

الآن… هناك “حظر تجوال”، و”تباعد اجتماعي”؛ بسبب هذا الوباء” كوفيد 19″. مات الآلاف حتى اليوم.. الحكومة الصينية تفرض إجراءاتٍ صارمةً لمواجهة هذا المرض القاتل…

الإجراءات المتبعة هنا صارمة، وقد تصل عقوبة المخالف للموت رميًا بالرصاص! رأيت مآسي كثيرة لا أستطيع نسيانها..

أتصل بأهلي كل يوم صباحًا وظهرًا ومساء.. أتحدث إليهم بالساعات.. ولا أكتفي بهذا بل إنني أتصل بهم عبر الفايبر والواتس والإيمو.. أراهم عبر كاميرا الفيديو.. ولولا هذا لجننت بلا ريب!

هناك اتهامات للصين بأنها السبب في نشرهذا المرض اللعين.. والسبب………………

طبخ الخفافيش!

كتبها الروائي شعبان منير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى