إعلام الأثرياء هل ساهم في الوعي؟ أم وتّــر الأوضاع وأفسد المجتمع؟

 


🖋د.عبد الولي الشميري

سماواتنا مزدحمة بآلاف من القنوات الفضائية، والمواقع الألكترونية وأرضنا مكتظة بالجرائد والمجلات الخاصة، ومثلها بالحكومية التابعة للأنظمة التي أصبحت شبه خاصة، وجميعها تتنافس وتتسابق على إبتزاز ما بقي من العقل العربي لدى الأمة، لقد كنا في الماضي نتحامل متبرمين على وسائل الإعلام الرسمية بسبب إنشغالها بتلميع الحكام وتأليه الذوات، وتمجيد العجز وامتداح الفشل، وتغييب الأقلام الصريحة بالحق، المبدعة في الثقافة وصناعة الوعي، كنا نسخر من صوت المذيع أو المذيعة يوم كان يستغرق بث إهداء أغنية ما مدة نصف ساعة, يهديها فلان وفلانة لفلان وفلانة بمناسبة قرب العيد السعيد، وكنا نرى ذلك إهداراً للمال وللوقت، وفقراً في المأدة الإعلامية المفيدة للسامعين، أما اليوم فقد أوحشتنا تلك الأساليب لملئ أوقات البث، وصرنا نتمناها ولو لوحدها فقط، إذ لا ضرر منها على المسامع، وخاصة عندما ظهرت وسائل الإعلام الموتورة التي لا ترحم في مجال تزييف الأخبار، وتشويه الصحيح وإبتلاع الصدق، ودمغ الحق بالباطل.
رب يوم بكيت منه فلما      صرت في غيره بكيت عليه
كانت لنا إذاعات تبث باللغة العربية عبر الأثير نستمع إليها بجهاز الراديو فنرصد برامج أسبوعية على الأقل مفيدة عذبة تثري الحياة الثقافية، وترتفع بالمواهب الذوقية للفرد والمجتمع من يعيد لنا اليوم بريد المستمعين في إذاعة صنعاء، الّذي كان كالحدائق الوارفة نتفيأ منه منتخبات أدبية وأخبارا ثقافية، ومسابقات الذكاء، كان الكتاب والمعدون من أهل القدرات العلمية والأدبية ومن الشعراء الفحول، من يعيد لنا في إذاعة صوت العرب تلك القامات الفكرية والعلمية لنتسامر على مواهبها الإبداعية، أو من يعيد لنا في القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية قول على قول للأديب الكبير حسن الكرمي، والأمثلة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها , تعلمنا ونحن صغارا من خلالها فنونا عديدة ومعارف تليدة عن التأريخ والفكر وأخبار الدول والأدب والنقد والكون والسياسة والحضارات وسِيَر الأعلام وشتى أنواع المعارف.
واليوم يضج الفضاء والقاع والبقاع بالإذاعات، والتلفاز والمواقع الألكترونية والجرائد والمجلات، كثيرة كثرة أسماء المدن والأشخاص، فلا نجد ما يزيدنا علماً ولا وعياً ولا ما يمحو عنا جهلا، بل أصبحت صدورنا مشحونة بالكراهية والبغضاء ضد بعضنا، لأننا لا نسمع إلّا تعبئآت خاطئة كاذبة.
وفي تقرير خاص عن الإنفاق على وسائل الإعلام العربي نشرته دراسة إحصائية عن مركز الكلمة قبل سنتين تقريبا, أشار إلى إهدار ما يناهز 20 مليار دولار أمريكي تنفق على كافة وسائل الإعلام الموجه باللغة العربية على إختلاف وسائلها وكوادرها، وأوضح التقييم أنّ سبب إرتفاع الإنفاق هو وجود التنازع والتجاذب بين الأنظمة والأحزاب، والحروب الباردة بين الدول العربية, بينما تبلغ إيرادات الإعلانات التجارية في البلاد العربية عبر وسائل الإعلام العديدة لتسويق الخدمات والسلع نسبة 10% من مجموع الانفاق، وتبلغ تكلفة تسويق الأنظمة والحكام والمسئولين نسبة 70% من قيمة الإنفاق، وكأنهم سلعة نافقة بائرة لا يمكن تسويقها إلّا بتلك الحملات المأجورة، كما تبلغ نسبة الإنفاق على الإنتاج الفني لأغراض الكسب ونشره نسبة 18% بينما يبلغ الإنفاق الهادف للتوعية والثقافة والطفل نسيبة 2% فقط. ومن هنا أتساءل عما ازداد من الإنفاق على وسائل الإعلام خلال وبعد الربيع العربي وحملاته المسعورة، وتجييش كل من هبّ ودبّ لمخاطبة الجماهير ولو بالسباب والشتائم وكشف الأعراض والتعيير بالأمراض، إذ قد تبلغ نسبة زيادة الانفاق إلى 50% مما كان عليه قبل الربيع العربي.
لقد فقدت وسائل الإعلام العربي بوصلة المسار نحو رسالتها العظمى لتصحيح المفاهيم، والارتقاء بذائقة المستمع، والكشف عن الحقائق بحيادية ونقاء. فما لشعوبنا العربية من رسالة الإعلام وهدفها النبيل غير ترديد دور الإعلام وأهميته وحريته، وعند التنفيذ يأتي على ما يشتهي المنتج الّذي يدفع الأموال.
غراب تعلم مشـــــــي القطا     وقد كان يحسن مشي الحجل
فهرول ما بين هذا وذاك      فلاذا تأتى ولا ذا حصــــــــــــــــل
فالوسائل الإعلامية التي تملأ شاشاتها منازلنا وهي الجليس والأنيس لأبنائنا وبناتنا في البيوت، جعلت من الأسر شراذم متفرقة، وأفكار مبعثرة، حتى بلغت حد الخصومات والشحناء، ولكل قناة متحدثيها الذين يسايرون توجهات وأهداف مموليها، ومن الأشد حزنا خصخصة السياسة؛ لرؤس أموال مسروقة أو منهوبة من موارد الشعوب ومخصصات الدولة، على حساب البنى التحتية من مؤسسات وأصول عامة، وخدمات إجتماعية، بل أحيانا على حساب الصحة والتعليم وقوت الفقراء، كل ذلك من أجل حشد الجماهير والتأثير على البسطاء، بالدفع بأحد الفاشلين أو قدامى المغامرين إلى قمة السلطة وسدة الحكم، ثم يعودون لجلد الجماهير والاستخفاف بوعي الشعب، ومن المؤسف أن ما تفرزه حملات التطبيل الإعلامي البارزة في كل دورة انتخابية هم الجلادون القدامى وأمراء الحرب الذين سلخوا الشعوب وذبحوها، وتظاهروا بالصلاح والمساجد والعمرة، وفي أكفهم مسابح، وشفرات ذبح لمستقبل الأجيال:
قد بلينا بأمــــــــــير     ذكر الله وسبـــح
وهو الجزار فينا     يذكر الله ويذبح
لقد كانت الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية حتى التي كانت باسم الجيش، وباسم الأمن وباسم الفن، مليئة بأعمدة مبثوثة في أرجاء صفحاتها من الثقافة والفكر والمناظرات والقيم، وبأقلام أدباء ونقاد وشعراء ومبدعين، فأين هي صحفنا اليوم من تلك المواد التي مازلنا نتذكر منها أقلاماً خطت في عقولنا نور المعرفة وألق الفكر، ومدّت في أفكارنا مدى بعيدا من الطموح والإستعداد للعلم والقيم والفضيلة.
أمابعد:
فإني أدعو وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة لاستعادة دورها الريادي، والعودة إلى ماضيها التليد؛ لتصبح مناهل عذبة الموارد نقية المنطلقات، تنير للأجيال الجديدة مسارها المتوثب للبناء، وتنزع عن أعين الجيل نظارات سوداء قاتمة من صناع رحلة الضياع العربي، وتستضيف أقلاماً قادرة على تدفيق المعرفة والتحضير الموضوعي والبلاغة التعبيرية والانتقاء اللفظي؛ لترتقي بالموهوبين ولتصنع تياراً جديداً من العلماء والنوابغ، وما يزال في الساحة كوادر علمية وقامات معرفية تمتلك كل القدرات التي يحتاجها الجيل، لتبقى صحائفها وصفحاتها ضمن المراجع الّتي تستحق الإحتفاظ بها في مراجع المكتبات الثقافية، ومكتبة البيت والأسرة، وحسبي أن تضم مكتبتي في مؤسسة الإبداع سلسلة تزيد مجلداتها عن عشرة آلاف مجلد من إصدارات قديمة لمجلات وجرائد شهيرة انطلقت من عدد من البلدان منها: الاستانة (استانبول) في العصر العثماني، وبعضها من بومباي في الهند منذ أكثر من مائتي عام، وأخرى من بيروت ومثيلاتها من القاهرة، ومن باريس، ومن سوربايا بإندونيسيا، ومن دمشق وبغداد, ولا أكاد أفقد في أي عدد من أعدادها إسم كاتب شهير أو عالم قدير، من أعلام الفكر والتنوير. فهل سيجد الجيل المعاصر فيما تنشره وسائل إعلامنا المعاصرة ما يفيده في المستقبل كذلك؟!،  وهل من كاتب رقيب على نفسه يتمثل بالقائل:
ومــــا مــن كاتب إلّا ســـــــــيفنى      ويبقي الدهر ما كتبت يداهُ
فلا تكتب بخطك غير حرف      يســــرّك في القيامة أن تراهُ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى