رواية ” تيانو…عزلة الأرض البعيدة” للأديب مصطفى بوغازي.

 

رواية ” تيانو…عزلة الأرض البعيدة” للأديب مصطفى بوغازي.
رؤية ترجمية.
هشام بورزاق – كاتب ومترجم من الجزائر.

” المحيط الأطلسي- قرب جزيرة جورج تاون-17 نوفمبر 1877.
كان البحر يعقد هدنة مع السفينة “نافارين”, تلاشت ضربات الأمواج القوية وراحت مؤانستها المسالمة تبعث شيئا من الطّمأنينة في نفوس الآدميين، كما تراجعت سرعة الرياح وخفّ وقعها على شراع الصّاري إلاّ من صفق غير بعيد، فراحت تنساب بثقة نحو مشرق الشّمس بعد أيّام عصيبة قضتها في قلب العاصفة…”.
بهذه الكلمات يفتتح الروائي والشاعر الجزائري مصطفى بوغازي روايته ” تيانو…عزلة الأرض البعيدة” الصادرة عن دار خيال للنشر والترجمة بالجزائر ومنشورات غراب بالقاهرة 2021, نوفيلا سردية لا يتجاوز عدد صفحاتها المائة جاءت بأسلوب سلس ووقع موسيقي يشدّ القارئ منذ عتبة النص الأولى معبقة بعنصر التكثيف الذي لم يتخلّ عنه الكاتب منذ عقود من الزمن من خلال فن القصة القصيرة لينقله الى فن الرواية مختزلا من خلاله معاناة بشر اختلفوا في الدين والجنس والخلفية الثقافية وجمعتهم المعاناة والاضطهاد وقهر الطبيعة فوق سفينة الحياة التي لم تخل يوما من حس انساني رفيع.
تدور أحداث الرواية خلال القرن التاسع عشر في الفترة الممتدّة بين 1871 و1879 أين تنقل سفينة “نافارين” مجموعة من المغضوب عليهم من قبل السلطات الفرنسية لكل حكايته ومأساته، وجهتهم أرخبيل الوجع والمنافي القصريّة “كاليدونيا الجديدة”, ترجمت الرواية إلى الفرنسيّة والإسبانية وكان لكاتب هذه الاسطر الحظّ في سبر اغوارها السردية الساحرة ونقلها إلى القارئ بلغة شكسبير.
إنّ النص الأدبي باختلاف أنواعه شعرا كان أم نثرا هو نصّ متميّز يؤشر لإبداع الكاتب وقدراته اللغوية والتخيلية على الخلق المبدع المؤثث بأدوات جمالية، لذا كانت الترجمة الأدبية – ولازالت- ابنة الادب الشرعية تستمدّ تألّقها وخصائصها منه باعتبارها الجسر الرابط بين ثقافة اللّغة المصدر التي كتب بها النص الأصلي واللغة الهدف التي تستقبل وتستوعب الحمولة الدلالية والثقافية بكل أنساقها وتقدمها لقارئ مختلف في عملية تواصل حضاري وتلاقح معرفي.
يتداول مصطلح النقد الادبي في العديد من المحافل الاكاديمية والجامعات ومراكز البحث، كما خصّصت لهذه الدّراسات العشرات من الأبحاث والمؤلفات وقلما نسمع عن النقد الترجمي الأدبي بالرّغم من انتعاش- ولا أقول ازدهار- الترجمة الادبيّة نسبيّا ضمن صناعة الكتاب في الدول العربية، والامر نفسه يصدق على النقد الثقافي الذي بدأت ملامحه تبرز مقارنة بالنقد الترجمي.
من الصعب ممارسة النقد الذاتي في مجال الدراسات مهما كانت طبيعتها، بل قد يبدو ذلك أمرا غير مقبول من الناحية الموضوعية، غير انّني أحاول من خلال هذه الاسطر تقديم لمحة وجيزة عن مسار ترجمة الرواية وبعض المشكلات التي واجهتني وكيفية التعامل معها ونقل النص بأمانة –قدر المستطاع- حاملا على عاتقي عبئ المثل الإيطالي الشهير” المترجم خائن” Traduttore Traditore .
بدأت علاقتي بالرواية قارئا شدّه عنوان غريب، ” تيانو.. عزلة الأرض الغريبة”, لم أنتبه وإذا بي اترجم بداية الرواية ترجمة ذهنية أوّليّة، لم استفق بعدها إلا بعدما وجدت نفسي متورطا في عمل إبداعي مميّز، فالترجمة ليست مثل الكتابة التي لا حدود لها عندما يطلق الكاتب العنان لبنات أفكاره، المترجم مكبّل بحدود النص الأصلي – وإن كان له هامش في الإبداع والتصرف- إلاّ أنه يبقى محدودا إذا تجاوزه أخلّ بالأمانة وخرج عن الحقل الدلالي الذي وضعه الكاتب في اللغة المصدر.
نص الرواية نسيج لغوي مفعم بالتعابير المجازية والبلاغية تجسدت في لوحات تعبيرية صبت فيها الثقافات الإسلامية والمسيحية واليهودية من خلال شخصيات الرواية على ظهر السفينة وهي اول صعوبة واجهها المترجم على الصعيدين اللغوي وكيفية نقلها دون الإخلال بالخاصية الثقافية للمتلقي باللغة الإنجليزية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في الصفحة 27 من الرواية:” صديقي عمّار كان معلّما للقرآن بأحد الزوايا…”فكلمة الزوايا هي جمع زاوية وهو مصطلح منتشر في بلاد المغرب العربي وبعض دول الساحل الإفريقي يقصد به المدارس القرآنية واضرحة الأولياء الصالحين بحسب الموروث الثقافي الشعبي ليجد المترجم نفسه بين مطرقة التفسير باعتبار عدم وجود مقابل لغوي دقيق في اللغة الهدف وسندان تفادي الهوامش والشروحات مما يفقد النص الروائي رونقه وجماله وينزل به الى مصاف النصوص العادية كما يذهب اليه العديد من منظري الترجمة على غرار الدكتورة ” انعام بيوض” في كتابها ” الترجمة الأدبية” الصادر عن الوكالة الوطنية للنشر والاشهار, حيث لجأ المترجم إلى شرح وجيز للكلمة لم يتجاوز الثلاث كلمات في اللغة الهدف مع الإبقاء على الكلمة الأصلية من اللغة المصدر على النحو التالي:
“My friend Ammar was teaching Quran in an old traditional school Zaouia”.
وردت في النص السردي بعضا من النصوص المقدّسة من العهد الجديد والقرآن الكريم في إشارة من الروائي إلى التعايش والتسامح بين الأديان الإبراهيمية عبر التاريخ، حيث لم يجد المترجم صعوبة في اللجوء إلى إنجيل ” لوقا” ونقل الترجمة بصفة حرفيّة كما وردت في النسخة الإنجليزية للعهد الجديد ” الإنجيل بحسب التعبير الإسلامي”, غير أّنّ الأمر يختلف تماما فيما يخص القرآن الكريم بسبب خصوصيّة الثقافة العربية الإسلامية في التعامل مع ترجمة القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، فقد أجمع الفقهاء قديما وحديثا على إستحالة ترجمة آيات القرآن بإعتباره نصأ معجزا, وإنما تتم ترجمة معانيه التفسيرية والتأويلية, وهنا وجد المترجم نفسه أمام تعدد تفاسير النص القرآني كتفسير ابن كثير والطبري والقرطبي والزمخشري ولكل من هؤلاء المفسّرين اتجاه مذهبي مختلف على الآخر وأدوات معرفية تتغير بحسب الزمان والمكان والظروف التاريخية ليختار المترجم ويرجّح ترجمة- إنطلاقا من ثقافته الدينية وإطّلاعه على التراث الإسلامي- مقبولة تكاد تجمع بين مختلف التفسيرات لتأتي على النحو التالي:
” أخذ عمّار نسخة القرآن بين يديه، قبّلها ثم مدّها إليه بهدوء قائلا: ” إناّ نحن نزّلنا الذكر وإناّ له لحافظون”.
Ammar embraced the copy of the Quran and then serenely handed it to the Gendarme.
– “I learnt it by heart”.” We have – without a doubt- sent down the Message and we will assuredly guard it “. 15:9.
ومن الصعوبات التي واجهت المترجم كذلك الترجمة الشعرية، حيث وردت ستة ابيات شعرية ردّدتها بحزن شخصية ” سوزان” على وقع ألحان الكمنجة:
ذلك القمر اكتمل بدرا
يلبس وجهك الصافي يا أمي
وهذا نورك يغشى ظلام قلبي
لن أحدّثك عن وجع قلبي أبدا
كي لا أراك حزينة في عيوننا
ويبقى عالمك مبتسما بلا دموع…”
يقوا الجاحظ في كتابه “الحيوان”: ” وفضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل…”, كلام الجاحظ ورد في عصر كانت القافية ملكة الشعر العربي وتاجه وقد عرف الشعر العربي تطورا على المستوى التركيبي والدلالي واللغوي مواكبة للعصر وتحوّلاته وقد جاءت الأبيات على شكل القصيدة الحرة المتأثرة بالشعر الغربي الحديث ممّا خفف من حدة صعوبة الترجمة حيث سعى المترجم إلى نقل روح الأبيات مع مراعات خصائص اللغة الهدف و الحفاظ على الوقع الموسيقي في اللغة الإنجليزية باعتبارها ابيات تنقل مشاعر يشترك فيها بني البشر بمختلف ثقافاتهم لتاتي الترجمة على النحو التالي:
The Moon is a mirror of Gold…
Reflecting your pure face even Old…
The glow of your visage dazzles me, mother…
Like a full moon on a gloomy night and nothing other…
I would not talk about my woes…
Sorrow would never win the day of yours…
لا يمكن لأي ترجمة أن تكون نسخة طبق الأصل للنص الأصلي وخصوصا الترجمة الأدبيّة التي تبقى مقاربة تأويلية وتفسيرية في لغة أخرى ومغامرة معرفية شيّقة في رحلة بحث عن اتّساق فني وتشييد جسر حضاري ينقل تجارب وخبرات البشر إلى ضفّة ثقافيّة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى