إسمي لورا..

القصة الفائزة بالمركز الثالث على جمهورية مصر للقصة القصيرة عام 2016

 

بقلم محمد العزاب

(1)

أنظر في ساعتي للمرة الألف خلال دقيقة واحدة ، وألقي ببصري إلى بداية الطريق الأسفلتي حيث أقف على حيده ..
لألعن في سري تلك اللحظة المجنونة التي اتخذت فيها قراراً بالنزول من بيتي في ساعة كهذه ، ثم ألتفت خلفي لأركل مقدمة السيارة الصغيرة التي اختارت أسوأ مكان كي تتعطل ..
( لو رآني أحدا الــ . . )
يقطع أفكاري ضوء ينعش آمالي المحتضرة ، ضوء سيارة تقترب يعلن عنها مصباحيها الأماميين ، ثم يقطع صمت المكان صوت محركها الهادئ ، محافظاً على ثبات احدى قوانين الفيزياء ..
( تباً لهذا الطين .. لقد إتسخ حذائي الجديد . . !)
تقترب السيارة التي ظهر لونها الأسود تحت ضوء القمر ، متلألاً كحد سيف ، تتسع عيناي وفي ذهني تبرز أفكار عدة ، كأشواك القنفذ تتقافز فوقها خواطري القلقة ..
<< سفاح في المدينة ، لم يعد هناك أمان ..
<< الدكتور ( . . . ) يحلل شخصية السفاح ، من خلال جرائمه ..
<< في متوسط العمر ، إجتماعي ، ذكي للغاية ، رشيق البنية ، حاد البـــ ..
تقف السيارة السوادء أمامي بالضبط ، فأتراجع خطوة للخلف في تهيب ، أرمق إنعكاس السيلويت الخاص بي على زجاج النافذة ، وكأنه لا يخصني ..
وكما يحدث عادة في الأفلام في مثل هذه المواقف ، أخذ الزجاج ينزل ببطء ، بعكس ضربات قلبي ، ليبتدي من خلفه ..
وجه السائق المتسائل ، ولأتنفس الصعداء لأنه لم يكن مـ ..
يسألني : هل أنتِ في مشكلة ؟
ثم السؤال الأكثر ذكاءًا : هل تعطلت سيارتك . . ؟ !
بالطبع لا .. أنا أهوي الوقوف على الطرق المقفرة وحدي . .
أبتسم في هدوء دون جرأة على سُبابه ، وأتأمل وجهه . .
من النظرة الأولى ، وجه مطمئن ، يشعرك بسابق الألفة ، لا تنطبق عليه مقاييس (لومبروزو) عالم الجريمة الإيطالي
أقول في شبه رجاء : هل تُقلني معك إلى المدينة ؟
يهز رأسه موافقًا بينما أقفز داخل السيارة هاربة من الصقيع خارجها ، ثم ألتفت خلفي بينما تتحرك السيارة وأغرق في عدة أفكار ينتشلني منها صوته يهمس :
– هل تركتي شيئاً هناك..؟
أهز رأسي بالنفي ..
– لا لم أترك شيئاً..
وأقول في شرود :
– أي شيء..
وتنهمر الأمطار..
* * *
(2)

نقطة تلتقي مع نقطة ، ليسيل خيط رقيق من المياه على زجاج النافذة ، ثم تهطل الأمطار في قوة ، أرمقها من داخل السيارة المسرعة ، وأتسائل عن مصيري لو أني لازلت أقف بجوار السيارة المعطلة ..
( سوف يجدك أ . . )
أسمعه يتنحنح في حرج ويقول :
– أأبدو وقحاً لو سألتك عن سبب وجود فتاة مثلك هنا ؟!
أملئ رئتاي بالهواء شبه الدافي واهمس :
– كنت أحتاج لاستنشاق بعض الهواء النقي ..
يلتفت إلىّ في سرعة ويتساءل في دهشة :
– في هذه الساعة ! وفي مثل هذا الطقس!!
أكاد أهتف به : وما شأنك أنت , لكنه الحرج التقليدي الذي يصيبنا حين يؤدي أحدهم خدمة لك ، فتتقبل منه كلامًا و أسئلة لم تكن لتجيبها في موقف آخر ، بل قد تواجهها بردود جافة ، وبشيء من البرود .
أكتم خواطري وأرد قائلة :
– أنت تعرف جنون الفتيات .
يهز رأسه في عدم تصديق ويهمس :
– أعرفه لكن .. إلى هذه الدرجة ! !
ثم يقول : ألا تخافين ؟ !
أرد : من ماذا . . ؟
ينظر إلى وفي لهجة بدت ساخرة يقول :
– ليس (ماذا) بل (من) يا صغيرة .. !
ويكمل :
– من السفاح..
أحس بجفاف في حلقي رغم برودة الجو ..
(هل .. !)
لم أرتح لقوله (يا صغيرة) بهذا الأسلوب الساخر المريب ، لكني أبتسم في إستخفاف واقول :
– لا ..
واستطرد :
– اعرف أن هذا إنما يدل على الشجاعة المفرطة أو الحمق المفرط .
يبتسم بركن فمه مؤيدًا لكلامي ، فأقول في ثقة :
– لكني تدربت لثلاث سنوات على يد مدرب (جودو) وكما تعلم فهي لا تحتاج لقوة عضلية كبيرة ، وإنما تعتمد على مبادئ التشريح العضلي وحسن إستغلالها ..
يهزر رأسه موافقًا ..
أصمت لثوان وتشرد عيناي خارج السيارة فأسمعه يقول :
– هل تصدقين أن المجرم أو السفاح يكون مصاباً بمرض نفسى يجعله يؤذي أو يقتل ؟
حقًا .. إنه إنسان غريب.. !! إنه لا يفعل ما سيفعله أي شخص في موضعه ، حين تكون معه فتاة في سيارته ، إنه يحاورني كأني صديقه ، دون إلتفات لكوني أنثى غريبة في سيارة رجل غريب في منطقة شبه مقفرة في جو هو الأسوأ منذ شهور ..
ارد :
– إنه لا يسرق أو يحتال إنه يقتل.. ويقتل أناسًا أبرياء لا ذنب لهم ..
يتصاعد إنفعالي :
– قادهم حظهم العثر إلى طريقه فقتلهم ..
وتتصاعد نبرة صوتي :
– إن لم يكن هذا الــ . . شخص مريضاً نفسياً فمن ؟!
يهز رأسه في توتر ثم يرمقني بطرف عينه ويجز على أسنانه في قوة ويعقد حاجبيه..!
( فيم يفكر هذا الرجل . . ؟ )
أهدأ شيئاً فشيئاً ، فأعتذر عن عصبيتي ، فأجده يتظاهر في لباقة بأنه لم يلاحظ شيئاً ..
ومن مسجل السيارة تنبعث معزوفة (Port of mystery) (ميناء الغموض) للعبقري (Yanni) (ياني)
تمتد يدي لا إرادياً نحو جيب معطفي وأقول :
– قد أغفر أي شيء إلا القتل ..
يقول : القتل ..
ويشرد بعينيه وهو يكمل :
– الحقيقة أننا كأشخاص عاديين لم نفعل مثله حتى نشعر بما يشعر به هو .. إن من رأي فيلم (صمت الحملان) ( The silence of the lambs) لن ينسى ذلك المشهد حين إستطاع (هانيبل ليكتر) – الطبيب النفسي المجنون – قتل طاقم حراسته ، وبدلا من الفرار وقف ينظر حوله بلا مبالاة و أخذ يحرك يده في إنسجام مع الموسيقى ، ثم إتجه إلى باب زنزانته في هدوء شديد وكأنه يمتلك كل الوقت في العالم .. لقد إستطاع (أنتوني هوبكنز) (Anthony Hopkins ) تجسيد الشخصية ببراعة ، لكن من يجروء على الإدعاء بأنه يفهم – حقاً – تفكير السفاح أو آكل لحوم البشر ..
أستعيد شكوكي لكني أخفي إنفعالاتي متظاهرة بالإندماج معه في كلامه فأقول :
– لقد قرأت قصة (هيرمان ملفيل) (Herman melville) عن قبيلة التايبي (Typee) إنها تتكلم عن الشائعات التي تنسج حول القبائل البدائية من الذين يطلقون على أنفسهم متحضرين تلبية لرغباتهم في تشويه من واجهوهم بقوة في غزوهم وإستعمارهم ..
أشعر أن ما أقوله مهم فأكمل :
– يحكى (ملفيل) في قصته أن أفراد هذه القبائل لا يأكلون إلا لحوم أعدائهم و – فقط – على سبيل الإنتقام وليس من قبيل العادة الغذائية . .
أنظر إلى الطريق أمامي فأشعر بنظراته على جانب وجهي كأنها ممسات ، إلتفت إليه في سرعة فأجده ينظر أمامه.!
(هل هذا خداع البصر أم . . ؟ )
يقول :
– أنت تحبين القراءة إذن ، ولعلك تكتبين أيضاً ، فعلتها مرات ثم توقفت . .
ثم يستطرد في لهجة غريبة :
– لكن يبقى السؤال ..
ينظر إلىَّ ثم يلتفت إلى الطريق ويكمل :
– لماذا يصر على تكرار نفس الفعل بذات الطريقة ، يقال أنه يقطع الــ ..
وأخذ يسرد ما يفعله السفاح بضحاياه .. وبتفاصيل دقيقة مريعة
( هل هو متابع لأخبار هذا السفاح؟ أم أنه – فقط – يتلذذ بتخويفي ؟ ! أم أنه .. ؟!)
أعرف ميل بعض الناس للتحدث بتفاصيل دقيقة في مثل هذه المواضيع ، والبحث عن أخبار الحوادث بشغف في الصحف اليومية على سبيل التطهر الذاتي (Catharsis) ، هذا ما يجعلهم يلتفون حول حادث على الطريق لرؤية المصابين والموتى ، ويتلهفون لرؤية الجراح والدم ، ثم ينصرفون وفي قرارة أنفسهم يشعرون بالراحة لأنهم لم يصابوا بشيء مما رأوه ..
وهو هوس يتفاوت نسبه في كل منا ، أما إذا تطور إلى شكل مرضي لأصبح له إسم مختلف (نيكروفيليا – Necrophilia).
وبينما يزداد دقة في وصفه ، أخذت أفكاري تزداد وضوحاً في ما ..
(كيف يعرف هذه التفاصيل ، أكاد أقسم أنها لم تذكر في الصحف ..!)
يضرب عجلة القيادة بيده ويقول :
– لكن شخصاً كهذا لن يتوقف .. سيكمل ما بدأه .. لابد أنه قطع على نفسه عهداً أو نذراً (vow) ..
ويهمس :
– لن يتوقف .. لن يتوقف ..
أخذ صوته ينخفض حتى لتحسب أنه يكلم .. نفسه .. !
أمد يدي في جيب معطفي لأمسك بسلاحي الذي لا يفارقني منذ بدأت ..
وأنتظر..!!
* * *
(3)

على مدى البصر أرى أضواء المدينة تقترب . .
ومعها يخفق قلبي . .
(حتى متى سأنتظر .. ؟ )
أنتظر .. !
أنتظر ماذا .. !!
(لقد حان الـ .. )
بغتتة ينتفض جسدي في عنف وترتفع حدقتا عيناي إلى أعلى فلا يبقى ظاهراً سوى بياضهما فقط ..
” ثم أعود لأسيطر من جديد ”
( أخيراً )
أشعر بالسيارة تقف وبالسائق يمد يده ناحيتي في وجل ليهزني ، أفتح عيناي بغتة وأرمقه بنظرتي ، فأراه يفتح الباب المجاور له ويتراجع ناحيته ويده تعبث في معطفه لكن ..
تتحرك يدي في سرعة ، لتولج خنجري في قوة في جانب صدره الأيمن ، لابد أن نصله يداعب قلبه الآن ..
أوقعته الضربة من على كرسيه إلى خارج السيارة ، وبكل هدوء أخرج لأتجه إليه..
أراه يزحف في ضعف ولهاثه يزداد إرتفاعاً ، وقد إنغرس الخنجر حتى مقبضه في جانبه ، يحاول أن يصل إلى .. خنجر آخر ..
( أيها الوغد .. )
أضغط بقدمي على ظهره فيتوقف في ألم ، فأمسك بكتفه وأديره لأنظر إلى وجهه..
ينظر لي في عدم تصديق والدماء تغرق الأرض من حوله ، يحاول التحدث لكنه يلفظ دماً بدلاً عن الحروف وبصعوبة يقول :
– من أنت .. ؟
أرفع وجهي للسماء فتغسله الأمطار ، وأهز رأسي وبإستمتاع أغلق عيناي ومن السيارة تنبعث معزوفة (وداعاً يا صديقي – so long my friend ) لتناسب الموقف في صدفة قلما تحدث..
أمسك بالخنجر الآخر ، وأهبط بركبتي على صدره لتنبثق الدماء من فيه ، أسوي خصلات شعره في حنو وأنا أقول:
– هل ظننت أنك ستفلت مني ؟
وأبتسم :
– لقد كادت تكشفني لك حين توقفت لتقلنا معك..
فتاة سخيفة .. والأسخف أني مضطرة لأن أشاركها كل شيء ,إستطاعت مع الوقت أن تكبح جماحي .. إلا في لحظات الخوف حينما تضعف مقاومتها وتحتاج إلى ، ساعتها أعود بقوة ..
اشد قبضتي على الخنجر ثم أرفعه بيداي حتى رأسي ، وأغمض عيناي وسط تأوهات الألم وشهقات الذعر..
وأشعر بما حولي..
كأني أسع الأرض في عقلي ..
أشعر بالسماء الملبدة بالغيوم ..
والهواء المشحون بذرات الطاقة..
هزيم الرعد على البعد كطبول مكتومة..
الأمطار التي تهبط من السماء ، القطرات التي تغوص في شعري ، والتي تصطدم بالأرض حولي ..
أشعر حتى بإنسياب الدم من جرح صدره ، وبإرتعاشه جفونه ..
وخوفه ..
أهبط بيدي في قوة ليخترق الخنجر صدره فيتلامس النصلان كعاشقين طال بعادهما ..
يشهق بغتة ثم يصمت للأبد ..
أنهض وأرمقه للمرة الأخيرة ، ثم أنتزع خنجري فأضعه في جيب معطفي ، وأمضي في طريقي بلا ذرة من خوف,
وبإحساس مبهر من السيطرة..
(لقد انتصرت أنا عليه .. أيتها الضعيفة)
تاركة في صدره خنجره ، وعلى وجهه علامة (لورا) ..
وتوقيع السفاح ..
الجديد ..
** تمت **
#حرف_واحد

هذه القصة الفائزة بالمركز الثالث على جمهورية مصر  للقصة القصيرة عام 2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى