في حضرة التعلّق: حين يُفرَغ القلب من ذاته باسم الحب

✍️ منى جمال :
لم آتِك اليوم لأُلقّن درسًا دينيًا أو أُحمّلك ذنب ما حدث لأنك أحببت، فالقلب بطبعه مخلوق للتعلّق، لكن ما سأقوله يتجاوز الوعظ السطحي إلى الغور في عمق النفس؛ حيث تنشأ الشروخ، وتُبنى الحاجة، وتتسلّل الفجوة التي نُسمّيها أحيانًا “حبًا”.
ثمة خلل دفين لا يظهر في أوّل اللقاء، بل يتسرّب رويدًا من ماضٍ ممتدّ، من حرمانٍ لم نسمّه، من مشاعر لم تُعترف، من تجارب كوّنت وعينا دون أن ندري، فصرنا نبحث عمّن يُرمّم نقصًا لم نعد نُجيد تحديد مصدره.
ولذلك، حين نتعلّق، لا نتعلّق بالشخص في ذاته، بل بما يُمثّله لنا: الأمان، الاعتراف، الدفء، أو صورة نحتاجها بشدّة لنهدأ.
لكن الكارثة تبدأ حين يفقد هذا الشخص صفته البشرية في أعيننا، فنرفعه فوق قدره، ونعلّق عليه عبء خلاصٍ لا يملكه.
نتبعه كآلةٍ صامته، لأننا نظن أنه الخلاص، وهو لا يدري.
{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}
هكذا تُحجَب القلوب حين تُمنَح لغير خالقها دون وعي، ويصبح أقرب الناس إليك عاجزًا عن الوصول إليك، وأنت عاجز عن إدراك لماذا يؤلمك هذا القرب البعيد.
فما الحلّ إذًا؟
ليس في الإنكار، بل في الاعتراف.
راقبي مشاعرك، لا تُطفئيها، بل انظري في وجهها واسأليها: “ماذا تنقصين؟ ما الذي ظننته سيكتمل بوجوده؟”
حين نُسمّي الاحتياج، نُحرّره من سلطته علينا.
ضعي حدودًا، حتى في الحب.
فالكرامة لا تُناقض المحبة، بل تُزكّيها.
ومن يحبك حقًا لن يسألك أن تذوبي، بل سيحبّك كما أنتِ، كاملة، قائمة بذاتك، لا ظلًا له.
ثم فرّغي طاقة التعلّق في نوافذ أخرى: في الكتابة، في التأمل، في هدف تحبينه، في تفاصيل يومك الصغيرة التي أهملتها حين جعلتِ حياتك دائرة تدور حوله فقط.
امنحي نفسك مساحات تنمو فيها خارج حدود العلاقة، حتى لا تعودي سجينتها.
وأخيرًا، انزلي إلى الجذور، فغالبًا ما ينشأ التعلّق من نقصٍ في الطفولة، في التقدير، في الحضور العاطفي، في الأمان…
ليس ذنبك، ولكنه الآن مسؤوليتك.
وأنتِ لا تحتاجين إلى معجزة، بل إلى شجاعة.
شجاعة أن تعودي لنفسك، وتربّتين على قلبك بدلًا من مَدّه دائمًا للآخرين.
شجاعة أن تفهمي أن النجاة لا تأتي من الخارج، بل من لحظة صدق مع الداخل.
ليس الحب خطأ، بل الصورة التي رسمناها له.
وإن عاد قلبك إليك يومًا، فاحتضنيه كما لو كنتِ أنتِ الخلاص الذي طالما بحث عنه.