
قبل خمسة وعشرين عاماً، كان العاشر من شهر رمضان المبارك. بعد صلاة العصر، وبعد أن ألقيتُ درسي البسيط على المصلين، اقترب مني شيخٌ جليلٌ، وسماتُ الصلاحِ على مُحيَّاه، بلحيتهِ البيضاءِ وابتسامتهِ السَّمْحاءِ.
شكرني وأثنى عليَّ، وسألني: “من أين لكَ هذا الدهاءُ؟” ردَّ عليه صاحبي الذي كان بجانبي قائلاً: “إنه الشيخ ناصر”، وأخذ يمدحني أمامه. وأنا أستمعُ إليه وأقولُ: “يا شيخ، ما أنا إلا طالبُ علمٍ، وما عليكَ من كلامِ صاحبي.” ضحكَ الشيخُ وقال: “بُورك لكما، وسَلِمتْ جهودُكما. أنا اسمي خميس، وأنا أعملُ معَ مجموعةٍ مباركةٍ من الشبابِ الصالحِ أمثالِكم، لنوصلَ رسالةً، وأيَّ رسالةٍ! إنها رسالةُ دعوةٍ إلى اللهِ.” ثم تلا قولَهُ تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). قرأها بتؤدةٍ وصوتٍ جميلٍ. ثم قال: “تعالَ معي.”
خرجنا من الجامعِ، وقال لي: “انظر إلى الجبلِ البعيدِ.” نظرتُ، ثم سألتُ: “ماذا في الجبلِ؟” قال: “يكمنُ وراءَ الجبلِ خيرٌ كثيرٌ.” سألتهُ متعجباً: “ماذا وراءَ الجبلِ يا شيخ؟” قال: “الطريقُ إلى الحياةِ.” قلتُ: “لم أفهم يا شيخ، أيُّ حياةٍ؟” قال: “العودةُ إلى اللهِ مالكِ الملكِ.” سألتُ: “وهل هناك اليومَ من هم في ضياعٍ؟” أجابَ بسعادةٍ: “نعم يا بُنيَّ. كيفَ السبيلُ إليهم؟” أجابَ: “أن تستعدَّ للرحلةِ بعدَ العيدِ، لِنُعيدَ الأملَ والحياةَ لمن هم بحاجةٍ إليها. أنتَ يا بُنيَّ تملكُ موهبةَ الوصولِ إلى القلبِ، وهذا كلُّ ما نريدُ لهذهِ المهمةِ الإنسانيةِ العظيمةِ.”
قلتُ له: “توكلنا على اللهِ.” وتبادلنا الأرقامَ. كنتُ في بداياتِ مسيرتي الدعويةِ حينها، وكانتْ فرصةً عظيمةً لأعيشَ لحظاتِها كما عاشها من كان قبلي من الصحابةِ الكرامِ والأنبياءِ العظامِ. أتممنا رمضان، واحتفلنا بالعيدِ السعيدِ، وحانَ وقتُ الرحيلِ لرحلةِ الحياةِ.
صلينا الفجرَ جماعةً في الجامعِ، وخيرةُ الشبابِ معنا، والشيخُ خميسٌ يتقدمُنا. ركبنا مركبتنا رباعيةَ الدفعِ من نوعِ نيسان، وتوجهنا إلى اللهِ بالدعاءِ ليباركَ رحلتنا بقيادةِ أميرنا، وأنا يملؤني الشغفُ. قطعنا ثلاثَ ساعاتٍ متواصلةٍ، وها قد وصلنا إلى الجبالِ. وما هي إلا لحظات حتى أصبحنا في قلب الجبال، وفي لحظةٍ صمتتْ هواتفُنا، لتُعلنَ الجبالُ أننا أصبحنا في عالمٍ آخر بعيدٍ عن الحضارة. هنا بدأنا رحلةَ الصعودِ الوعرةِ، والصخورُ تُحيطُ بنا من كلِّ جانبٍ.
ترجَّلْنا، وقال الأميرُ: “هيا بنا.” مشينا وصعدنا ونزلنا، ثم تسلَّقْنا وسطَ الجبالِ. هنا انتابني الخوفُ ونحن نتبعُ الأثرَ والطريقَ. طريقٌ لم تصلْهُ مركباتٌ، ولا تُحلِّقُ من فوقِهِ الطائراتُ. سميتُهُ “طريقَ الحميرِ”، لأنَّ الحمارَ كانَ وسيلةَ الوصولِ الوحيدةَ والسبيلَ إليهِ.
وبعدَ عناءٍ ومشقةٍ، لاحَ الأملُ في الأفقِ البعيدِ على سفحِ جبلٍ مهيبٍ: قريةٌ جبليةٌ صغيرةٌ، بيوتُها من حجرٍ وطينٍ، ونخلتان يابستان، وأشجارُ سمرٍ كثيرةٌ، وأكباشٌ وخرافٌ وقليلٌ من الأغنامِ، ورائحةُ البرازِ تملأُ المكانَ. “يا رباه! هل هنا تكمنُ الحياةُ؟!” سألتُ نفسي.
تقدمنا بحذرٍ إلى أن وصلنا. كانَ باستقبالنا امرأةٌ عجوزٌ بزيٍّ عُمانيٍّ قديمٍ. سلّمنا عليها، وأهديناها ما حملناهُ من الطعامِ والشرابِ. ثم استأذنا بالدخولِ. وكأيِّ عُماني، تمَّ استقبالُنا لنصلَ إلى كبيرِ القريةِ. رجلٌ طاعنٌ في السنِّ، متكئٌ على جدارِ بيتهِ الصغيرِ. تجاعيدُ وجههِ تتحدثُ عن قصصٍ كثيرةٍ، ولحيتهُ الكثيفةُ تشهدُ على زمنٍ غابرٍ عاشهُ، وتقاسيمُ قدميهِ تحكيانِ قصةَ معاناةٍ مع الزمنِ. لا يقرأُ ولا يكتبُ، يتوسَّدُ حجراً، ويلبسُ إزاراً وقميصاً مُتهالكاً، لكنَّ عمامتَهُ الغليظةَ لا تفارقُهُ لترويَ مسيرةَ عمرٍ قضاهُ. رجالٌ ونساءٌ ممن نسيهم الزمنُ، اعتزلوا البشرَ واعتزلتْهم الحضارةُ في قريةٍ جبليةٍ بعيدةٍ، الوصولُ إليها بالحميرِ والبعيرِ.
توجهنا إليهِ، وقفَ لتحيتنا والسلامِ علينا. كانَ قد تخطى السبعينَ من عمرهِ، لكنَّ قوةَ جسدهِ الحاضرةَ ملأتْنا خجلاً. وقبلَ أن نخبرَهُ عن مقصدِنا، استوقفنا وقال: “القهوةُ أولاً، ثم أستمعُ إليكم.” دخلَ بيتهُ الصغيرَ وأحضرَ بضعَ تمراتٍ ودلَّةَ القهوةِ وبعضَ الفناجينِ. كانَ الذبابُ يسبحُ في سماءِ المكانِ، ونحنُ نبعدهُ، والأطفالُ الصغارُ يسترقون النظرَ إلينا من بعيدٍ. بكيتُ في داخلي وقلتُ: “ليتني أحضرتُ شيئاً من الحلوياتِ لهم!”
بعدَ القهوةِ والعلومِ العربيةِ العُمانيةِ الأصيلةِ التي لم تفارقْ عاداتهم الكريمةَ، أخذَ الشيخُ خميسٌ يسترسلُ الحديثَ معَ الرجلِ العجوزِ، وأنا أتابعُ في صمتٍ وذهولٍ. فسألَ الشيخُ: “كيفَ أنتم والصلاةُ والقرآنُ؟” أجابَ الشيخُ: “الصلاةُ لم نتركها منذُ أن عقلناها، أما القرآنُ فلم نجدْ لهُ إلا نسخةً مُتهالكةً قديمةً ورثها من جدِّهِ يقرأُ منها كلُّ من في القريةِ.” سألَهُ الشيخُ: “ماذا تحفظُ من كتابِ اللهِ يا عم؟” أجابَ: “الفاتحةَ والإخلاصَ وبعضاً من قصارِ السورِ.” أما عنِ النساءِ، فالحالُ كالحالِ. لم ينلنَ فرصةَ التعليمِ، بل عشنَ لأجلِ لقمةِ العيشِ وأرضٍ ورثنها من جدودهنَّ.
أما الشبابُ والصغارُ، فقد انتقلوا إلى القرى البعيدةِ لأجلِ العلمِ وحياةٍ أفضلَ، وفي الإجازاتِ يعودونَ للسلامِ عليهم والعيشِ معهم ليكتسبوا جَلَدَ الحياةِ والصبرَ على المِحَنِ. سبحانَ اللهِ! لم أكنْ أعلمُ بوجودِهم، وفي لحظةٍ نسيتُ ما الهدفُ الذي جئتُ من أجلهِ. ناداني الشيخُ خميسٌ وهمسَ في أذني وقالَ: “هل أنتَ مستعدٌ للكلامِ؟” فقلتُ لهُ: “بل أنا مستعدٌ للاستماعِ، لأني وجدتُ نفسي صغيراً في عالمٍ يفتقرُ إلى أقلِّ سبلِ الحياةِ.” فما زالتِ الأسئلةُ تراودني: كيفَ يعيشونَ؟ ومن أينَ يأكلونَ؟ لكنَّ الجوابَ واضحٌ وجليٌّ، كلُّ من عندِ اللهِ العليِّ القديرِ.
بِتْنا معهم تلكَ الليلةَ، وأنا والشيخُ نُدارسُهم القرآنَ الكريمَ ونُعلِّمُهم الوضوءَ والصلاةَ. ومع هبوطِ الليلِ البهيمِ، صعدتُ إلى مكانٍ مرتفعٍ لأتأملَ السماءَ. هناك، حيثُ تتلاشى أنوارُ البيوتِ والشوارعِ، لمعتِ النجومُ كما لم أرَها من قبلُ، وكأنها تزيّنُ سقفَ العالمِ. اشتدَّ البردُ القارسُ ليتسلَّلَ إلى عظامي، وأصواتُ الليلِ تملأُ المكانَ من حشراتٍ ودوابَ، وصمتُ الجبالِ يملؤني بالرهبةِ والسكينةِ. هنا، اختلطتْ أفكاري، فمزجتُ بينَ عظمةِ الخالقِ في هذا الكونِ الشاسعِ، وبساطةِ الحياةِ هنا، وتساءلتُ عن مكانتي في هذا الوجودِ. ما بِتُّ تلكَ الليلةَ إلا قليلاً، حتى نادى منادٍ للفجرِ: “قد حانَ وقتُ الصلاةِ.” صلينا جميعاً ومعنا الشيخُ العجوزُ، وتدارسنا القرآنَ إلى طلوعِ أولِ رمحٍ من الشمسِ، وشربنا لبنَ الغنمِ معَ التمرِ والسمنِ. وكأنني أعيشُ لحظاتٍ من برنامجٍ ثقافيٍ غريبٍ.
حانَ وقتُ العودةِ للبيتِ. ودّعنا الجميعَ، وهم مُحمَّلونَ بالهدايا من كتابِ اللهِ وسجادةٍ للصلاةِ وبعضِ المسابيحِ. هنا تفاجأتُ أنَّ أحدَ الشبابِ ممن كان معنا مدَّ يدهُ بكيسٍ من الحلوياتِ والبطاطسِ للصغارِ. فرحتُ كثيراً لأجلِهم وتمنيتُ أنني بادرتُ. حملنا متاعنا، ودموعُ الفراقِ تملأُ وجوهَنا ونحنُ نفارقهم. هل من لقاءٍ بعدَ الفراقِ؟!
وصلنا إلى مركباتنا والتعبُ على أجسادنا، لكنَّ السعادةَ تملأُ قلوبنا بعدَ أن أكملنا رحلةَ الحياةِ.